مشروع قانون الجرائم الألكترونية، ليست خاتمة الأحزان
“كل من أشاع أو عزا أو نسب قصدا دون وجه حق إلى أحد الأشخاص أو ساهم في ذلك عن طريق الشبكة المعلوماتية أو تقنية المعلومات أو نظام المعلومات أو الموقع الإلكتروني أو منصات التواصل الاجتماعي أفعالا من شأنها اغتيال شخصيته يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وبغرامة لا تقل عن (25000) خمسة وعشرين ألف دينار ولا تزيد على (50000) خمسين ألف دينار”. نص المادة (16) هذا من مشروع قانون الجرائم الألكترونية المجحف ومن منظور شخصي غير مهني؛ كان سيعتبر نصاً رائعاً بالنسبة لي ولغيري من بعض الكتاب؛ لأنه سيجنبنا أعاصير السب والذم والتحقير والافتراء التي نتعرض لها بعد كل مقالة تدافع عن حرية أو حق ما في وجه الفكر المتطرف والتقليد المتخلف.
حملات التشويه والسب المستمرة التي أتعرض لها مع غيري من الكتاب لم تكن لتجعلنا نغض الطرف عن حفلة العوار التي تنطق بها مواد مشروع قانون الجرائم الألكترونية الذي تنفي حزمة من نصوصه الادعاءات التي تُسَطَّر في مئات الصفحات من التقارير المقدمة للهيئات الأممية والدولية عن «اتساع أفق حرية التعبير وتمدد فضاء النقد وإبداء الرأي».
كثرة العوار الذي يعج به مشروع القانون يجعل من غير اليسير انتقاء الأمثلة عليه وتفصيلها، لكن لا بأس من ضرب مثالاً واحداً على بعض أنواع رئيسية منه. أولها قانوني محض، يتمثل في معاقبة الجاني على قصد مفترض، الأمر الذي يتنافى مع المبادئ الأساسية للقانون الجنائي، فالمادة (4) على سبيل المثال، تنص في فقرتها (أ) على أنه: “يعاقب كل من دخل أو وصل دون تصريح أو بما يخالف أو يجاوز التصريح إلى الشبكة المعلوماتية أو تقنية المعلومات أو نظام المعلومات أو أي جزء منها يعود للوزارات أو الدوائر الحكومية أو المؤسسات الرسمية العامة أو المؤسسات العامة أو الأمنية أو المالية أو المصرفية أو الشركات التي تملكها أو تساهم بها أي من تلك الجهات أو البنى التحتية الحرجة واطلع على بيانات أو معلومات غير متاحة للجمهور تمس الأمن الوطني أو العلاقات الخارجية للمملكة أو السلامة العامة أو الاقتصاد الوطني بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على ثلاث سنوات وبغرامة لا تقل عن (2500) ألفين وخمسمائة دينار ولا تزيد على (25000) خمسة وعشرين ألف دينار”، لتأتي الفقرة التي تليها مباشرةً (ب) فتنص على أنه: “إذا كان الدخول أو الوصول المنصوص عليه في الفقرة (أ) من هذه المادة لإلغاء تلك البيانات أو المعلومات أو إتلافها أو تدميرها أو تعديلها أو تغييرها أو نقلها أو نسخها أو نشرها أو إعادة نشرها أو خسارة سريتها أو تشفيرها أو حذفها أو إضافتها أو حجبها أو إفشائها أو التقاطها فيعاقب الفاعل بالأشغال المؤقتة وبغرامة لا تقل عن (5000) خمسة آلاف دينار ولا تزيد على (25000) خمسة وعشرين ألف دينار، ويعاقب بالأشغال المؤقتة مدة لا تقل عن خمس سنوات وبغرامة (25000) خمسة وعشرين ألف دينار إذا تمكن من تحقيق النتيجة“. والعوار في هذا النص يعكسه وجود ثلاث عقوبات لفعلين ونية، الأولى لفعل الدخول والوصول غير المصرح به، والثاني على نية إلغاء أو إتلاف أو نسخ أو التلاعب بالمعلومات والبيانات التي من أجلها قام الفاعل بالدخول والوصول حتى وإن لم تترجم نيته لنتيجة فعلية، ثم العقوبة الأشد على الفعل نفسه إذا تحققت النتيجة التي تغياها الفاعل. وواقع الأمر أن التساؤل يثور عن السند الدستوري أو القانوني أو القضائي لاعتبار نية الإلغاء أو الإتلاف أو النسخ حتى وإن لم تتحول إلى نتيجة جريمةً أو ظرفاً مشدداً يستوجب تغليظ العقوبة؟ ثم كيف يمكن إثبات أن الشخص قد دخل ووصل إلى المعلومات والبيانات الألكترونية بغرض الإطلاع عليها فقط أو بغرض الإطلاع ثم الإتلاف أو الإلغاء؟ فإذا كان الجواب أن قرينة نية الإتلاف أو الإلغاء أو النسخ هو تحقق أياً من هذه النتائج، فهذا يعيدنا لنسأل عن قيمة البحث في القصد طالما كانت قرينته تحقق النتيجة الجرمية، مع ملاحظة أن القصد الجنائي دائماً وأبداً هو ركن من أركان الجريمة وليس جريمةً بذاته ولا حتى ظرفاً مشددا فيها.
العوار الثاني يتمثل في القصة القديمة الجديدة المرتبطة باستخدام عبارات وتوصيفات فضفاضة تحتمل وجوهاً متعددةً للتأويل والتفسير لطالما استخدمت وما تزال في عديد من الدول لقمع الحريات وتغييب المعارضين في غياهب السجون، مثل: «تكدير السلم الاجتماعي.. ازدراء الأديان.. الحض على الكراهية..” وما إلى ذلك من أنواع الكمامات المختلفة التي تستخدم عند الحاجة وبدونها لتحقيق غرض سياسي أو منع تحققه.
أما العوار الثالث، فهو عملي وهو من المضحكات المبكيات، إذ يشترط مشروع القانون في مادته (37) على «كل منصة تواصل اجتماعي يزيد عدد المشتركين فيها على 100 ألف شخص أن تدشن لها مكتباً في الأردن يتولى استلام الإشعارات القضائية والرسمية»، فهل هذا يعني أن كل شخص لديه قناة فنية أو ثقافية أو سياسية على يوتيوب أو لديه صفحة على فيسبوك ومتابعوه أو المشتركين لديه عددهم 100 ألف وواحد، يجب أن يقوم بتدشين مكتب ارتباط في عمان؟ هل على «الدحيح و جو-شو ومستر بيست MRBeast» وغيرهم من مئات ألوف صانعي المحتوى على الإنترنت فتح مكاتب لدينا؟ أم لربما كان الغرض من هذا النص العجيب «تنشيط سوق العقارات والاستثمار»، ثم أليس من المعيب أن نرسل رسالة للعالم فحواها «أننا حتماً سوف نجرجركم للمحاكم وسوف نغرقكم بالإنذارات والإخطارات القضائية، لذلك فعليكم فتح مكاتب لاستلامها حتى وإن لم تفعلوا شيءً يستدعي ذلك ابتداءً».
العوار التالي جاء بإضافة لجنة مجلس النواب القانونية فقرةً على المادة (19) تنص على أنه: “يعاقب بناءً على شكوى بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وبغرامة لا تقل عن (5000) خمسة آلاف دينار ولا تزيد على (20000) عشرين ألف دينار كل من قام بنشر تسجيل أو صورة أو مشهد أو فيديو بدون اذن وان كان مصرحاً له بتسجيله أو التقاطه”، وهذا النص يبدو مفصّلاً ومطرّز يدوياً لأنه يجعل التصوير المصرح به و/أو الموافق عليه صراحةً أو ضمنياً فارغاً من مضمونه حيث يتوجب على من يأخذ لقطات في رحلة أو حفلة أو حتى مهرجان أن يعود لكل من ظهروا في الصورة أو المقطع ويطلب إذنهم للنشر أو المشاركة! فالنص المقترح لا يستثني اللقطات المتخذة في أماكن وفعاليات عامة وإنما جاء على إطلاقه ليؤكد على غاية مشروع القانون الأولية والنهائية وهي خفض السقف المتداعي لحرية التعبير والوصول إلى المعلومات.
وأخيراً وللأسف ليس آخرا، أبى مشروع القانون إلا أن يضع الأشخاص ذوي الإعاقة في قالب نمطي بغيض كما هي العادة، فجاء نص الفقرة (ب) من المادة (14)ليقول: “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر و بغرامة لا تقل عن (3000) ثلاثة آلاف دينار ولا تزيد على (6000) ستة آلاف دينار كل من حاز داخل نظام المعلومات أو دعامة لتخزين البيانات صورا أو تسجيلات أو رسومات أو غيرها مثيرة جنسيا لأعضاء جنسية أو أفعال جنسية حقيقية أو افتراضية أو بالمحاكاة لحدث لا يتجاوز الثامنة عشرة من عمره أو كان المحتوى يتعلق بشخص مصاب بمرض نفسي أو بإعاقة عقلية”، فبالإضافة إلى الاستخدام المغلوط للمسطلحات والمسميات الخاصة بالإعاقات الذهنية والنفسية، فإن مشروع القانون يرى في «المرض النفسي» حتى وإن كان اكتئاب أو قلق مزمن أو رهاب.. مسوغاً لإنزال الشخص أياً كانت خلفيته العلمية و/أو الثقافية منزلة القاصر، الأمر الذي يؤكد أن ثمة عشوائية متجذرة في عمليات سن التشريعات، إذ لو استمزج واضعوا هذا النص الأدبيات والاتفاقيات الدولية بل والتشريع الوطني وأصحاب الاختصاص.. لما جاءوا بهكذا صياغة تهدر وتسخر من جهود مضنية بذلت على مدار سنوات وما تزال.
كما قلت لأحد الأصدقاء من الصحفيين، ليس من مفاجأة في مشروع قانون الجرائم الألكترونية، فهو عثرة من العثرات التي يعج بها الطريق ذو الاتجاه الواحد الذي نسلكه منذ فترة وآخره حائط صلب لطيف فيه متسع لكل متذمر ليطرق به رأسه بحرية وخصوصية تامتين.
ثمة جانب كوميدي لطيف في مشروع القانون هذا، ألا وهو أحد أسبابه الموجبة التي تعزو سنّه إلى مواءمة التشريع مع. . . شيء عربي صادر عن جامعة الدول العربية، ولما لا، ففي استذكار الموتى عبرة وعظة، فالفاتحة لهم ولنا الصبر والسلوان على مشروع قانون مسيء هو حتماً ليس من خواتيم الأحزام.