يكشف التقرير معاناة شريحة من الأرامل المسنات في الأردن يكافحن الفقر؛ بسبب قوانين تقاعد مجحفة، يعشن في أوضاعا بالغة الصعوبة؛ بسبب خفض دخولهن، ما أجبر الكثيرات على الاختيار بين الكرامة أو الطعام أو مجرد البقاء.
حل خريف 2022 مختلفا على أم محمود؛ إذ تآكل دخلها الشهري لنحو النصف! في بداية الأمرلم تستوعب الحدث تماما، بعد الأسبوع الأول، تقول:" وصلتني رسالة من البنك صدمني الرقم 102 مئة ودينارين اتصلت بأبنتي وقلت خصمو كثير مني ، فردت حسب القانون صح واعتذرت بانشغالها" اقفلت الهاتف وصدى كلمة (حسب القانون صح) يرن بأذنيها.
خلفية القصة
الخسارة التي تكبدتها أم محمود جاءت نتيجة "قانون الضمان الاجتماعي" قانون التقاعد الذي أُقر عام 2014 (بعد تطبيق مؤقت عام 2010). فالمادة (84/ب) تسمح للبنات المطلقات بالمطالبة بجزء من راتب تقاعد والدهن المتوفى، بغض النظر عن أوضاعهن المالية، وذلك بالشراكة مع الأم الأرملة أو حتى مع الأشقاء العاطلين عن العمل.
قبل م2010، كان في الاردن قانوني تقاعد، الأول قانون تقاعد مدني وآخر عسكري ، يصطلح عليه مديرية التقاعد المدني والعسكري حاليا، ، بحثت أم محمود في تفاصيل القانون، سألت أبناءها المتزوجين والجيران؛ لتفهم لا حقا أنه وفقا لهما لاتستحق الابنة المطلقة الحاصلة على تقاعد خاص حصة من تقاعد والدها إذا كان كلاهما على نظام الضمان الاجتماعي أو العكس، كما ورد من نص المادة 14 من قانون التقاعد العسكري، والمادة (33) من قانون التقاعد المدني، وتمنح الأبنة المطلقة أو الأرملة نصيبا من تقاعد والدها، ولا يجوز الجمع بين تقاعدين على أن يختار الوارث الحصة الأكبر.
المفارقة اليوم، وعلى عكس البنات غير المتزوجات اللواتي يُحرمن من هذا الحق إذا كنّ موظفات، فإن البنت المطلّقة المتقاعدة تستطيع الجمع بين راتبها التقاعدي وراتب والدها، حتى لو تجاوز دخلها 350 دينارًا، وهو ما يفاقم معاناة الأمهات الأرامل ممن لا يمتلكن دخلا سوى تقاعد أزواجهن، إذ لا تساهم غالبا الأبنة في مصاريف المنزل، سواء سكنت مع أطفال طليقها، او مع والدتها.

معاناة يومية
قبل خفض الدخل، كانت أم محمود - وهي زوجة لمتقاعد عسكري- تعيش مع ابنتها غير المتزوجة شرق عمّان، حيث تستلم 270 دينار أردني تمكنت من تدبيره لتغطية احتياجاتهما الشهرية الأساسية، لكن بعد أن تقاسمت ابنتها المطلقة المعاش معها، وجدت نفسها عاجزة حتى عن شراء حاجاتها الغذائية البسيطة. تقول: "كنت أشتري أرز وسكر وزيت ودجاج وبعض الخضار، الآن ما عاد المبلغ يكفي حتى فاتورة الكهرباء والماء، فما بالك بالدواء أو المواصلات".
تنهدت وروت لي كيف حرمت نفسها من أغذية وفواكه نصحها فيها الطبيب اسبوعيا لخفض الدهون والسكر، والحد من مخاطر بلوغ هشاشة العظام مستوى خطير، ما عاد المبلغ يتيح لها نصف ما كانت تصرفه.
قصة الحاجة رُقيّة لا تختلف كثيرا، فهي أرملة في السبعينيات ، جنوب العاصمة عمّان، تعيش وحدها بعد أن زوجت أبناءها الثلاثة- ثلاثة بنات وشابين – تتلقى راتبا مدنيا (على النظام القديم)، منذ عشرة أعوام، لم يتبقّ لها بعد اقتسام راتب زوجها المتوفى مع ابنتها المطلقة سوى 136 دينارا، وهو مبلغ لا يكفي حتى لتغطية نفقات علاجها من السكري والضغط، كما أنها لا تستطيع الاستفادة من صندوق المعونة الوطنية بسبب امتلاكها حصصا في أرض بورٍ نائية لا تعود عليها بأي دخل.
رفضت الحالات في هذه القصة التوجه لصندوق المعومنة الوطنية، كان رفض أم محمود والحاجة رقية بإعتبار أن طلب المساعدة بمثابة انتقاص من حقوقهن.
"بالله"، تأسف رقية وتقول: "شخص مصاب بارتفاع ضغط الدم والسكري ليس لديه ما يكفي لدفع تكاليف رحلته إلى الطبيب والعودة - كل ما أحصل عليه هو 136 دينارا أردنيا"، صمتت قليلا قبل أن تضيف أن لديها حصصا في بعض قطع الأرض النائية، تقدر قيمتها ب 20,000 دينار، وأخبرها جيرانها أنها بسبب هذا غير مؤهلة للحصول على مساعدة مالية من صندوق المعونة الوطنية، تعلق:"هذا يعني أنهم يحرموني حقي ويتوقعوا مني أطلب المساعدة، من يستحق الدعم أكثر مني؟ لن أقبل المساعدة".
تشعر أم محمود بالمثل تجاه طلب المساعدة: "لا شيء يخفف من قلقي سوى أن لدي منزلا أعيش فيه - على الأقل لا أستأجر. كيف سأعيش إذا كنت أستأجر؟ لم أستطع أبدا أن أطلب من الناس قطعة خبز، حتى لو كنت جائعا".
الناطق الإعلامي للصندوق يؤكد إمكانية حصولهن على معونة وفق معايير صندوق المعونة لعام 2023م تتعلق بخط الفقر المطقع في الأردن، وعدم وجود ابن معيل للمسنة، او ابن يتجاوز دخله الشهري 350 دينارا، وقيمة الأصول والعقارات المسجلة باسم الأرملة باستثناء مسكنها.
*يظهر الرسم التالي نسبة الترمل في الأردن والمنتفعات من صندوق المعونة الوطنية وفق ورقة حقائق المجلس الوطني للسكان.
مع مرور الأشهر، أدركت أم محمود أن انتظار التفات الدولة لأحولها لن ينقذها، فحاولت الصمود، قررت أن تبدأ مشروعا منزليا صغيرا لصناعة المربيات والأجبان، وتسويقها للجارات والمعارف، تقول:" هذا المشروع يسد بعض المصاريف، لكنه يتطلب جهد يفوق طاقتي" فبعد مرور عامين من المشروع بدا مرهقاـ واستنزف قواها الجسدية، إذ يتطلب الوقوف لساعات طويلة، وحمل الأواني الثقيلة، تقول:" كل ما أحمل طنجرة أتذكر تحذير الدكتورقال لا تحملي أوزان، مفاصلي ما تحتمل، وقال لا تبذلي جهد لينفع العلاج".
لقد مر ما يقارب من 15 عاما، ولم تتخذ الأمهات الأرامل بعد أي إجراء للمطالبة بحقوقهن، كما أن أي منظمة مجتمع مدني معنية بحقوق المرأة في الأردن لم تبذل جهدا لتسليط الضوء على وضعهم، علاوة على ذلك، وفقا لمصدر في مؤسسة الضمان الاجتماعي، بلغ عدد المطلقات اللواتي يتقاسمن راتب تقاعد والدهن – المتقاعد لدى الضمان – مع أمهات تجاوزن الستين عامًا 32 حالة خلال عام 2024، ولا تتوفر لدى المؤسسة إحصاءات حول الوضع الاقتصادي لأيٍّ منهن، وهو ما لا يتوافر أيضا لدى صندوق المعونة الوطنية لتقدير حجم الشريحة المتضررة بدقة.
تعد اللجنة الوطنية لشؤون المرأة واحدة من أبرز الجهات المخولة بدراسة التشريعات والقوانين في الأردن، وتقديم مقترحات، فحسب م. مها العلي الأمينة العامة للجنة يقتصر دور اللجنة بموجب المهام المسند إليها رقم 11 لسنة 2025م في تقديم مقترحات ورفعها إلى الجهات المعنية، وعليه تصدر التشريعات وتصبح نافذة بعد مرورها بالقنوات الدستورية، منوهه العلي أن المقترحات التي تقدمها اللجنة لا تعد ملزمة للجهات المعنية بالأخذ بها.
ولقد خاطبت اللجنة في العام 2018 رئاسة الوزراء بشأن إعادة النظر في استحقاق الأرملة العاملة لتقاعد زوجها، بسؤالها عن قضية لا تقل حساسية حول حالة أم محمود والحاجة رقية وكل من يعشن تلك الظروف، تقول أن القاعدة القانونية هي قاعدة عامة مجردة، تخاطب كل أفراد المجتمع لا تخاطب شخص بعينه، قابلة للتطبيق على جميع الوقائع التي تحقق شروطها، وتضيف أنه وبغياب إحصاءات حجم الشريحة المتضررة لا يمكن الحكم عودة لقاعدة القانون، وعليه ترى اختلاف الحالات فمرة تكون الأم الطرف الأضعف وأحيانا الابنة المطلقة هي الأكثر حاجة للحماية الاجتماعية.
هشاشة اقتصادية وأثار نفسية
وفي حين أن أم محمود والحاجة رقية تجاوزتان من الناحية الفنية خط الفقر الوطني الرسمي في الأردن (100 دينار أردني للشخص الواحد شهريا)، من منظور نوعية الحياة، فإن المبلغ الذي يتلقاه اليوم غير كاف لتغطية احتياجاتهما الأساسية، ما يدخلهن في هشاشة اقتصادية.
يقول الخبير الاقتصادي الأردني، حسام عائش: "عند الحديث عن المساعدات المالية أو الجمع بين المعاشات التقاعدية، فإن الشيء المهم هو التركيز على ما إذا كان دخل الفرد يمكن أن يغطي الحد الأدنى من مستويات المعيشة، مثل الغذاء والسكن والصحة والتعليم والنقل، مع الحفاظ على مستوى أساسي من الكرامة الإنسانية"، ويشير إلى أن تكلفة مستوى المعيشة اللائق في الأردن لشخص واحد تبلغ حوالي 300 دينار شهريا.
" من منظور علم الاجتماع خلف هذا القانون آثارا نفسية واجتماعية عميقة على الأرامل المسنات، فحين ينخفض دخل الأرملة كدخل وحيد لتأمين أساسيات حياتها، يتراجع شعورها بالأمان وتتصاعد حالة القلق والخوف من المستقبل" تقول مستشارة علم الاجتماع الدكتورة ميسون العتوم معلقة على تعديلات قانون الضمان التقاعدي لعام 2010م
مشيرة لمرحلة عمرية تحتاج فيها المرأة إلى الاستقرار لا إلى مزيد من الضغوط، بينما فتح القانون الباب أمام أعراض نفسية كالاكتئاب وفقدان الدافعية، ما يجعلها أكثر هشاشة في مواجهة تحديات الحياة اليومية.
أما الأثار الإجتماعية بحسب العتوم، فلقد ترك القانون بصمته على العلاقات داخل الأسرة نفسها، فبدل أن تبقى العلاقة بين الأرملة وابنتها المطلقة علاقة تضامن وتكافل، تتحولت إلى تنافس على مورد مالي محدود، في مفارقة تقوّض الرابط العاطفي والإجتماعي، وتزرع بذور التوتر والفتور داخل العائلة، فتضعف شبكات الدعم الاجتماعي.
وتكمن المشكلة الأعمق بحسب العتوم في أن التشريعات تصاغ غالبا من زاوية مالية بحتة، دون النظر إلى انعكاساتها النفسية والإجتماعية، وذلك لغياب صوت علماء الاجتماع والنفس عند إعداد مثل هذه القوانين، لذا تخرج قاصرة عن تحقيق العدالة الاجتماعية، مستشهدة بتجارب دولية قدمت نموذجا مختلفا، كما في فرنسا حيث أسهمت رؤى علماء الاجتماع في جعل السياسات أكثر حساسية تجاه الفوارق الفردية وتوزيع الأعباء بعدالة.
لقد وقع الأردن التزامه التزم بالهدف الأول من أهداف التنمية المستدامة 2030 لإنهاء الفقر والعنف ضد الأرامل وأطفالهن، لكن المجلس الأعلى للسكان أشار إلى أن ملف الترمل وكبار السن لم يحظَ بالاهتمام الكافي محليا، مع ندرة البيانات حول حقوق الأرامل في الميراث والأراضي والحماية الاجتماعية، ودعا إلى سياسات وبرامج جادة لمواجهة الفقر والتمييز، وضمان حقوق الأرامل وفق القانون الدولي.
ولا تزال الأرامل المسنات معرضات للخطر على الرغم من التدابير الأخيرة لتحسين مستويات المعيشة لكبار السن في الأردن. من الاستراتيجات الوطنية منذ 2018 وأحدثها ( 2025-2030) بما يدعوان إليه، مزيد من الحماية ، فلم يصدر بعد أي إجراء لحمايتة المتأثرات بهذا القانون، تعلق أم محمود:" والله يا بنتي النا الله، يمكن ينتبهوا لما تنكسر لي عظمة..".
- أنجزت هذه المادة بدعم من العربي الجديد











































