يمر الأردن بتحول ديموغرافي حاسم تتصدره الأغلبية الشبابية من جيلي (Z) (المواليد بين 1997 و2012) و(ألفا) (المواليد من 2013 فصاعداً). يُشكل هذان الجيلان اليوم ما يقارب ثلث المجتمع الأردني، وهما يمثلان قوة دافعة للتغيير الاجتماعي والثقافي والاقتصادي.
تشكل وسائل التواصل ومنصات المحتوى السريع مثل تيك توك وإنستغرام مرجعيتهم المعرفية والسلوكية الأساسية، مفضّلين المصداقية العارية على الصورة المثالية. هذه الهيمنة الرقمية تخلق تحدياً مزدوجاً: فجوة متزايدة بين توقعاتهم العالمية وبين الواقع الاقتصادي والاجتماعي الأردني الذي يعاني من تحديات هيكلية متراكمة.
يُعرّف الجيلان (Z) و (ألفا) أنفسهما ضمن إطار من "الهوية السائلة"، بعيداً عن التعريفات التقليدية للمهنة أو الطبقة أو القبيلة، إذ يتبنّون منظومة قيم عالمية تتيح لهم الانخراط في قضايا عابرة للحدود.
ينعكس هذا في سلوكهم الإعلامي؛ حيث يستهلك هذا الجيل المعلومات عبر مقاطع فيديو قصيرة ومكثفة في اقتصاد الانتباه ، ما يتطلب من المؤسسات والحكومة إعادة هندسة تواصلها جذرياً لتناسب هذه الرسالة المُدمجة والمباشرة.
تشير دراسات أن 89% من أفراد هذا الجيل يثمنون الصدق والشفافية، وهو ما يُترجم في الأردن إلى تآكل الثقة بالسلطة الإعلانية أو المؤسسية التقليدية، مع تزايد الاعتماد على المؤثرين والزملاء المشابهين لهم (Peers) كمصادر للمعلومة، مما يوجب تحول الخطاب العام من التلقين إلى الحوار الشفاف والمُعترف بالتحديات.
يُعبّر جيل Z عن وعي نقدي مرتفع تجاه القضايا العامة، حيث تظهر المشاركة السياسية والاجتماعية لديهم غالباً عبر الهاشتاغات والميمات (Memes) والحملات الساخرة. هذا السلوك ليس مجرد تهرب من الجدية، بل هو آلية تكيّف تعكس إحباطاً من قنوات التعبير التقليدية، وهو شكل من أشكال التمكين المدني غير التقليدي.
في الأردن، على الرغم من الاستثمار الوطني الكبير في البنية التعليمية، لا تزال المملكة تواجه فجوة كبيرة تُعرف بـ "عدم التوافق الهيكلي لسوق العمل. تتجاوز معدلات البطالة بين حملة الشهادات الجامعية عتبة الـ 22%، في إشارة واضحة إلى أن مخرجات التعليم لا تلبي متطلبات الاقتصاد سريع التغير.
يشعر الشباب الأردني بالإحباط الشديد لكونهم متعلمين ولكنهم غير مؤهلين وظيفياً بالضرورة. لم تعد الوظيفة المستقرة هي الغاية المطلقة، إذ يبحث جيل Z عن عمل ذي مغزى ، يوفر التوازن بين الحياة المهنية والشخصية ويسمح له بترك أثر. يفسّر هذا التوجه تزايد الانخراط في الاقتصاد الحر (Freelancing) والاقتصاد التشاركي ليس كخيار مفضل دائماً، بل كطريق إجباري للحصول على الاستقلال المادي وتجنب الإحباط الوظيفي.
ويُساهم هذا التحدي في تأخير الاستقلال المادي للشباب، وارتفاع سن الزواج، وتنامي الشعور بالإحباط الجماعي، مما يشكل عبئاً على شبكات الدعم الاجتماعي والأسرية التقليدية، وهي التداعيات الاجتماعية والاقتصادية الرئيسية.
لردم هذه الفجوة، يتطلب الأمر تحولاً استراتيجياً يتجاوز مجرد تحديث المناهج إلى مأسسة المرونة والابتكار في منظومة الموارد البشرية. تُعد المبادرات الحكومية الأخيرة، بدعم من شركاء دوليين (مثل البنك الدولي واليونيسف)، خطوة نحو الاتجاه الصحيح لتأمين مستقبلة رأس المال البشري، حيث تستهدف مشاريع مثل "الشباب والتقنية والوظائف" دمج المناهج الرقمية وتدريب الشباب على مهارات البرمجة، والتحليل الرقمي، وعلوم البيانات. يجب أن يركز التعليم على المهارات الناعمة مثل التفكير النقدي، وحل المشكلات المُعقدة ، والذكاء العاطفي، وهي مهارات غير قابلة للاستبدال بالذكاء الاصطناعي.
كما يجب إنشاء مسارات بديلة عبر تعزيز التعليم والتدريب المهني والتقني (TVET) ليس كـ "خيار ثانٍ"، بل كـ مسار ذي قيمة عالية يرتبط مباشرة باحتياجات الصناعات المستقبلية (مثل الطاقة المتجددة، التكنولوجيا المالية، والتصنيع المتقدم). بالإضافة إلى ذلك، فإن مجرد وجود رسالة مهمة لا يكفي، فآلية إيصالها هي المفتاح لكسب ثقة الجيل، وهي ما تتطلبه متطلبات التواصل المؤسسي والتفاعلي. يجب أن يكون التواصل المؤسسي قائمًا على المنصات حيث تُصاغ الرسائل لتناسب بيئة تيك توك وإنستغرام، وتكون شخصية، وصادقة، ومباشرة، مع الابتعاد عن اللغة البيروقراطية.
أما في التعليم التفاعلي والاستكشافي، فلا يتعلم جيل Z بهدف "الاستظهار" للاختبار، بل لـ "الفهم والتطبيق"، لذا يجب أن تتحول الفصول الدراسية إلى مختبرات تفاعلية تعتمد على التعلم القائم على المشاريع وتحاكي تحديات الحياة الواقعية.
وفيما يتعلق بـ المشاركة السياسية والتمكين المدني، لا يرفض الجيل الجديد السياسة، بل يرفض آليات المشاركة القديمة. لذا، يجب العمل على فتح قنوات الثقة من خلال إشراك الشباب في صناعة القرار بشكل حقيقي وملموس، وإنشاء مجالس استشارية رقمية فعالة أو بثوث مباشرة تفاعلية مع صانعي القرار لكسر حواجز الثقة المفقودة، مع الاعتراف بأن الشفافية هي العملة الجديدة للمشاركة.
كما يجب دعم ريادة الأعمال المجتمعية والتركيز على مشاريع تدمج الربح مع الأثر الإيجابي، مما يلبي حاجة الجيل إلى العمل ذي المعنى والمساهمة في بناء المجتمع.
إن فهم جيليّ Z وألفا في الأردن ليس تحدياً اجتماعياً فحسب، بل هو استثمار استراتيجي في مستقبل الدولة. الأمر يتطلب تحولاً جذرياً في النظرة، من اعتبار الشباب باحثين عن وظائف إلى اعتبارهم خالقي فرص ومحركي نمو. إن الاستجابة الفعالة تقتضي إزالة العوائق الهيكلية في سوق العمل، وتطوير نظام تعليمي مرن يركز على مهارات المستقبل وبناء جسور من الثقة والتواصل الشفاف عبر المنصات التي يتواجدون فيها.












































