عبرة في الكلاب لغير أولي الألباب
في زيارة أسعفني حظّي أن أقوم بها لمنظمة اسمها "Pilot Dogs” https://www.pilotdogs.org في ولاية أوهايو الأمريكيّة، عايشت تجربة التنقل لمدة ساعة ونصف تقريباً مع الكلبة "Poppy” من فصيلة “Golden Retriever” وهي من كلاب القيادة “Guide Dogs” التي يتم تدريبها بحرفيّة عالية لمساعدة الأشخاص المكفوفين على الحركة والتنقّل باستقلاليّة تامّة وأمان. حينما أحضرها المدرّب وأوقفها بجواري للتعرّف علي، بدأت تعناقني وتَشتْمّ ملابسي وتلعق يدي كلّما مدّدتها لأتحسس رأسها وظهرها، وكأنّها تعرفني منذ زمن، وبمجرّد أن وضع المدرّب الرسن حول ظهرها واللجان حول عنقها، أخذت وضعيّة الاستعداد، تماماً كأنّها جندي ينتظر الأوامر.
قلت لها بهدوء: “Forward, إلى الأمام”، فانطلقت... وكلّما اختلف منسوب الأرض ولو بسانتي مترات ارتفاعاً أو انخفاضا؛ كانت تتوقّف لأقوم بفحص الأرض بقدمي، ومعرفة ما إذا كنت بصدد درجة أو انحناء بسيط في الطريق، ثمّ آمرها باستئناف السير، إلى الأمام أو يساراً أو يميناً أو بالتوجّه نحو الباب إذا دخلت بناية معيّنة أو إيجاد حافّة الرصيف والتوقّف عندها إذا أردت عبور الشارع إلى الجهة المقابلة...
فاجأت “Poppy” الجميع حينما توقّفت فجأةً عن السير دون أمر مني ودون وجود أي اختلاف في منسوب الطريق، فشهق المدرّب متعجّباً ومثنياً عليها، ليخبرني أن هذه المنطقة تحديداً كان بها ورشة صيانة منذ أسبوعين ومرّت بها “Poppy”، فتذكّرتها الآن حتى بعد أن عادت لطبيعتها!
ردّة فعل الكلبة “Poppy” وحنوّها وذكاؤها، وكذلك استحضارها للماضي وتوقّفها عند المكان الذي كان مختلف بالأمس، جعلني أتأمّل آراء بعض الفلاسفة الذين وصفوا الإنسان بأنّه "حيوان ذكي أو مفكّر"، إذ أنّهم حتماً كانوا سيتمهّلون في وجهة نظرهم هذه وربّما يخرجون برأي مختلف لو عاينوا رؤوس قطعان وسائل التواصل الاجتماعي ممن يعشقون تسليم رسن عقولهم ولجام تفكيرهم لكلّ ماجن سياسي يدغدغ غرائز التمرّد الغوغائيّة والتنمّر العشوائيّة فيهم، بينما تستحضر الكلاب ماضيها وتُحكِّم غرائزها وضمائرها برقيّ في تحديد سلوكيّاتها وتفاعلها مع بيئتها المحيطة.
ثمة مستعرض في ثوب معارض من الخارج تزكم نرجسيّته أنوف من يَميْزوا الرائحة الطيبة من الريح الخبيث، بينما يستنشقها مريدوه باستسلام بعد أن ابتاع حواسّهم وإحساسهم وباعهم بضاعته البائرة، وهو من بعد في ما يبدو يعشق الإثارة/الساسبينس الهابط من حقبة السبعينيات والثمانينيات، فهو حقيقةً يذكّرني بفيلم "فتوّة الناس الغلابة" في آخره حينما ارتدى الفنّان سمير صبري القلادة السحريّة التي تخفي الشخص دون أن يعلم أن مفعولها قد بَطُل وأنّ الجميع يراه؛ قام هذا البائس "شرلوك هولمز" زمانه وفتوّة دراويشه مؤخّراً بنشر تغريدة تؤكّد أفكه، والأخطر تأكييدها تفشّي ظاهرة الدعارة الفكريّة وبيع النفس بين جموع "الحشّاشين" ممن يعيدون تغريداته معلّقين عليها تأييداً وتمجيدا، إذّ نشر "الرجل الغامض بسلامته" تغريدةً على موقع تويتر مهاجماً رئيس الوزراء د. بشر الخصاونة بسبب قراره تعيين السيدة الفاضلة فداء الحمود رئيسة ديوان التشريع والرأي رئيسةً بالوكالة لهيئة الاستثمار ، فكتب: (دولة رئيس الوزراء بشر الخصاونة يعين فداء الحمود "الخصاونة" رئيساً لهيئة الاستثمار)، وما هي إلّا ثوانٍ حتى التهبت غرائز القطيع بعد أن التهم هذه الحزمة من البرسيم التحريضي وبدأ يثغو ويتناطح دون أن يكلّف أي من الرؤوس نفسه عناء التثبّت من صحّة معلومة صلة القرابة المزعومة بين رئيس الوزراء والسيدة فداء الحمود، على الرغم من قيام البعض بنشر تغريدات تبيّن أنّ السيدة فداء ليست من عائلة الحمود المتفرّعة من عشيرة الخصاونة، وإنّما هي من عائلة أخرى لا تمت لرئيس الوزراء بصلة وتحمل الاسم نفسه، لكن أنّى يُلتَفَت لهذه الأصوات المتعقّلة في خضمّ الصراخ والثّغاء.
المخجل عدم استشعار المُضلَّل بالخجل حينما يتجلّى له أنّ ثمة من يقوده ويوجهه ويتلاعب بوعيه ومشاعره، إذّ لا ينبغي بحال أن يكون السخط على الأوضاع العامّة وعدم الرضى عن أداء الحكومة أو أي من أجهزة الدولة والرغبة في التعبير عن الغضب والانتقاد؛ ثمنه بيع الوعي وتأجير التفكير بعقد إذعان لأشخاص احترفوا التسويف والبهتان.
الكذب وتزوير الحقائق نبت عشوائي خبيث سريع النموّ، يستمد بقائه من جموع الحصّادين الذين استمرأوا منظره البشع ومذاقه المُقزَع، لذلك فإنّ نصيحتي لهؤلاء غير أولي الألباب ممن يؤمنون بكلّ كذّاب، فيذعنون له ولا يوصدون في وجهه باب، ويعشقون اللهاث خلف السراب؛ أن يتقدّموا بطلب للتَدرّب في منظمة “Pilot Dogs” على يد الكلبة “Poppy” لعلّهم يعقلون.