انطبع في الذاكرة ذلك الحوار الذي أُتيح لي أجريته مؤخراً مع علي يانج، ممثل مكتب تايبيه الاقتصادي والثقافي في عمان. لم يكن اللقاء مجرد حوارا دبلوماسيا، بل كان مدخلاً إلى تجربة تنموية اقتصادية فريدة، بدأت قصتها من لسان ضيف يُجيد العربية الفصحى بسلاسة.
يانج: الأردن شريك حيوي في المنطقة ونطمح لتعزيز العلاقات الاقتصادية والثقافية
تلك السلاسة في اللغة عكست سلاسة أكبر في التحول الاقتصادي الذي شهدته الجزيرة الآسيوية، ما يضعنا أمام سؤال محوري: كيف يمكن للأردن، الذي يتمتع باستقرار بشري وجغرافي متميز، أن يحاكي "التجربة التايوانية"؟
يُظهِر الأردن وتايوان فجوة كبيرة في معدّلات البطالة: ففي الأردن، بلغت نسبة البطالة حوالي 21.3 ٪ خلال الربع الأول من العام، مع ارتفاع ملحوظ في بطالة الإناث التي تجاوزت 30 ٪ تقريبا، بينما في تايوان تُسجَّل نسبة بطالة منخفضة جداً تقارب 3.3-3.4 ٪ .
لتحديد مكامن الاستفادة، يجب أولاً وضع التجربتين على طاولة الأرقام. تايوان، التي انطلقت من عقود ماضية ببناء قاعدتها الصناعية، أصبحت اليوم القوة المهيمنة عالمياً على صناعة أشباه الموصلات (الرقائق الإلكترونية)، وهي عصب تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، ما يفسر وصولها إلى مستويات معيشة مرتفعة جداً.
هذه الفجوة في معدلات البطالة، وتحديداً بين فئة الشباب الأردني، هي التحدي الأكبر. ففي الوقت الذي تدير فيه تايوان اقتصاداً معرفياً يخلق فرص عمل عالية القيمة، لا يزال الأردن يعاني من الضغط على الوظائف التقليدية.
تكمن الاستفادة الأردنية من التجربة التايوانية في ثلاثة محاور رئيسية، جميعها يتطلب إرادة سياسية لا تقل عن تلك التي أعادت علماء تايوان من الخارج لبناء "سيليكون فالي" آسيا في السبعينات.
أولى هذه المحاور استراتيجية العقول (هجرة عكسية للكفاءات): أشار يانج إلى أن تايوان استقطبت عقولها المهاجرة للبدء بالعمل في المجالات التكنولوجية. الأردن يمتلك ثروة بشرية هائلة من المهندسين وخبراء تكنولوجيا المعلومات يعملون في كبرى الشركات العالمية (جوجل، مايكروسوفت) ومشاريع البنية التحتية العملاقة.
يجب على الحكومة الأردنية وضع خطة وطنية عاجلة لتقديم حوافز تنافسية (مالية، تشريعية، ولوجستية) لاستقطاب 5% فقط من هذه الكفاءات لإنشاء شركاتهم الناشئة والمساهمة في مراكز التدريب المتخصصة بالذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، بالتعاون مع برامج التبادل التايوانية.
إلى جانب محور دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة (SMEs) للقضاء على البطالة:أكد يانج أن تايوان تعتمد على صناديق حكومية لدعم المبادرات والأفكار الإبداعية للشباب، وهو عامل حاسم في خفض البطالة إلى مستواها المتدني للغاية. البطالة في الأردن هي بطالة هيكلية، لا يمكن حلها بالتوظيف الحكومي وحده.
لذا بدلاً من استنزاف الموازنة في توفير وظائف إدارية محدودة، يجب تحويل مخصصات لدعم الصناديق التي ترعى المشاريع الصغيرة والمتوسطة ذات القيمة المضافة العالية، وتطبيق نموذج الحوكمة والشفافية التايواني عليها. فمشروع صغير وناجح يُنشئ ثلاث فرص عمل هو أكثر قيمة من وظيفة إدارية واحدة.
وصولا إلى محور تكنولوجيا الزراعة لمواجهة الفقر المائي: يعد الأردن من أفقر دول العالم مائياً، ما يهدد قطاعه الزراعي. رغم أن تحديات المياه في تايوان مختلفة (تتعلق بالإدارة والتخزين)، إلا أن خبرتها في تكنولوجيا الزراعة الدقيقة، واستصلاح الأراضي، وزراعة الأسقف الخضراء، يمكن أن تكون شريان حياة جديداً.
هنا أن استثمار العلاقات الاقتصادية لإنشاء برامج تدريب وتمويل مشتركة تركز على نقل التكنولوجيا التايوانية لتطوير الري بالتنقيط الذكي ومعالجة المياه الرمادية في المنازل والمزارع، ما يعزز "الاقتصاد الأخضر" ويضمن استدامة سلة الغذاء الأردنية.
العلاقة الأردنية التايوانية ليست وليدة اليوم، بل يعود تاريخها إلى زيارة المغفور له الملك حسين إلى تايوان عام 1959. هناك استثمارات تايوانية ناجحة بالفعل في الأردن، خاصة في قطاع المنسوجات، حيث تبلغ حوالي 60 مليون دولار وتوفر 7500 فرصة عمل. هذا النجاح الجزئي يثبت أن الأردن بيئة آمنة وجاذبة.
إن نقل التجربة التايوانية لا يعني استنساخها، بل يعني تبني روحها: التركيز على العقل البشري كأغلى ثروة، وتشجيع الابتكار بدعم حكومي مباشر، وتحويل التحديات الطبيعية (كالمياه) إلى فرص تكنولوجية. الأردن اليوم في مفترق طرق، والنموذج التايواني يضيء طريق العبور نحو اقتصاد معرفي قادر على توظيف شبابه وصناعة مستقبله.












































