التعاون المائي الأردني–السوري يعيد حوض اليرموك إلى دائرة الاهتمام وسط تحديات الإقليم
تطمينات سورية للأردن أن دمشق لن تكون في وفرة مائية فيما يعاني الأشقاء من العطش، مما يعيد ملف حوض نهر اليرموك إلى الواجهة. وفي الوقت نفسه، تعكس هذه الطمأنة استعداد دمشق للتعاون، ما يجعل إدارة الموارد المائية المشتركة ضرورة ملحة لا خيارًا ثانويًا.
معاون وزير الطاقة السوري لشؤون الموارد المائية المهندس أسامة أبو زيد، قال الثلاثاء ان سورية والأردن شرعا في مرحلة جديدة من التنسيق الفني والمؤسسي المشترك، تمثلت بعقد اجتماعات متخصصة تناولت دراسة حوض نهر اليرموك، وتقييم وضعه المائي الحالي في ظل التحديات المتزايدة المرتبطة بالتغيرات المناخية وتراجع الواردات المائية.
تصريحات أبو زيد تاتي على هامش انعقاد أعمال الاجتماع الرابع للجنة الاستشارية للسياسات واللجنة الإدارية لمبادرة السلام الأزرق في الشرق الأوسط والمنعقد في بيروت، قال فيها إن الاجتماعات الثنائية المشتركة بين الأردن وسورية، ناقشت إمكانية اعادة صياغة أو تطوير الاتفاقية الناظمة لإدارة الحوض بما يتوافق مع المستجدات المناخية والواقع المائي الجديد في المنطقة.
وشدد بالتوازي مع ذلك، على أن اتفاقية المياه القائمة والمشتركة بين الجانبين ما تزال سارية ومحترمة من قبل الطرفين.
التطمينات السورية جاءت مترافقة مع إعادة تفعيل اللجنة الفنية المشتركة وزيارات ميدانية متبادلة لسد الوحدة والحوض، في إشارة إلى إدراك مشترك بأن مرحلة إدارة الموارد التقليدية انتهت، وأن ما تبقى هو إدارة ندرة متزايدة تتطلب تنسيقًا واقعيًا لا يحتمل الخطابات العالية أو السجالات السياسية. ويبدو هذا التحول في المقاربة متسقًا مع الواقع المائي الأردني شديد القسوة.
حيث بات الأردن يُصنّف بين أفقر دول العالم مائيًا، مع تراجع حصة الفرد السنوية إلى نحو ستين مترًا مكعبًا.
وهو رقم لا يعكس مجرد شح طبيعي، بل تراكمًا لعوامل ديموغرافية ومناخية وسياسية جعلت الأمن المائي ملفًا سياديًا من الدرجة الأولى. فالعجز السنوي الذي يقترب من خمسمئة مليون متر مكعب يُغطّى اليوم عبر استنزاف مكثف للمياه الجوفية، بما في ذلك مصادر غير متجددة، ما يضع البلاد أمام معادلة خطرة تقوم على تلبية احتياجات الحاضر على حساب حق الأجيال القادمة.
ضمن هذا السياق، كان يُفترض أن يشكّل حوض اليرموك أحد الأعمدة الداعمة للأمن المائي الأردني، غير أن التحولات التي أصابت الحوض خلال العقود الماضية، سواء نتيجة تغير المناخ أو توسع النشاط الزراعي في مناطق المنبع والمصب، أعادت تعريف دوره.
فقد تراجعت التدفقات السنوية إلى مستويات تقل في بعض السنوات عن خمسين مليون متر مكعب، الأمر الذي حوّل السدود والمنشآت المرتبطة بالحوض، وعلى رأسها سد الوحدة، من أدوات لتخزين الوفرة إلى مرافق لإدارة ما هو متاح بالكاد. وبهذا التراجع، أصبح التركيز ينصب على تقاسم النقص وتقليل الخسائر بدل محاولة زيادة الحصة.
ويكتسب هذا التحول أهمية إضافية عند ربط اليرموك بنهر الأردن، بوصفه رافده الرئيسي، إذ إن أي انخفاض في تدفقاته ينعكس مباشرة على النظام النهري الأوسع، وعلى وضع الأغوار الأردنية تحديدًا. ومنذ التوغل الإسرائيلي في ريف درعا الغربي، أصبح نهر اليرموك محط اهتمام مباشر، إذ يمثل أكبر روافد المياه بالنسبة للأردن، وهو مورد مائي مشترك بين البلدين ويشكل جزءًا من الحدود الشرقية الشمالية لفلسطين المحتلة بطول يبلغ 57 كيلومترًا.
ويعكس هذا الارتباط المائي أهمية الحوض ليس فقط على المستوى الوطني، بل ضمن سياق التوازنات الإقليمية الأوسع.
ويعد اليرموك عنصرًا حيويًا في تأمين الاحتياجات المائية للأردن، خاصة في ظل ندرة الموارد المحلية وارتفاع معدلات العجز المائي السنوي.
فمنذ عقود، خضع نهر الأردن الأعلى لسياسات تحويل وسيطرة أدت إلى تقليص تدفقاته جنوبًا، ما ساهم في تدهور النهر وانخفاض منسوب البحر الميت، ووضع الأردن في موقع المتلقي لنتائج سياسات لم يكن طرفًا فاعلًا في صياغتها. وهكذا، أصبح الأردن مضطرًا لإدارة مخزونه المائي بحذر شديد، مع الأخذ بعين الاعتبار تأثير السياسات الإقليمية على موارده.
وقد شهدت العلاقة المائية بين الأردن وسوريا مراحل من التوتر خلال حكم الرئيس بشار الأسد، على الرغم من توقيع اتفاقية عام 1987 التي نصت على تعاون واضح بين الطرفين، حيث كان من المفترض أن يقوم الأردن ببناء سد بسعة 220 مليون متر مكعب، بينما تبني سوريا حوالي 25 سدًا لري أراضيها والاستفادة من الكهرباء الناتجة عن السد الأردني.
إلا أن الواقع العملي جاء مختلفًا، حيث أنجزت سوريا خلال تلك الفترة بناء 32 سدًا إضافيًا على مجاري النهر، إلى جانب حفر آلاف الآبار الجوفية في حوضه، وهو ما أدى إلى انخفاض منسوب جريان المياه باتجاه الأردن وتقليص السعة الفعلية لسد الوحدة من 220 مليون متر مكعب إلى حوالي 110 ملايين فقط.
وتكشف هذه التجربة كيف أن التحديات المائية تتقاطع دائمًا مع السياسة، وهو أمر يضع الأردن أمام معادلات دقيقة.
هنا تتقاطع العلاقة الأردنية–السورية التعاونية حول اليرموك مع العلاقة الأردنية–الإسرائيلية الأكثر تعقيدًا وحساسية، حيث لا تزال المياه جزءًا من معادلة سياسية وأمنية غير متكافئة. ورغم أن اتفاقية وادي عربة وفّرت إطارًا قانونيًا لتنظيم العلاقة المائية بين الأردن وإسرائيل، بما في ذلك تزويد الأردن بكميات محددة من المياه، إلا أن التطبيق العملي ظل شديد الارتباط بالسياق السياسي الإقليمي.
ومع تصاعد التوترات في السنوات الأخيرة، برزت هشاشة الاعتماد على ترتيبات مائية مرتبطة باتفاقيات سياسية قابلة للاهتزاز، ما عزز القناعة الأردنية بأن الأمن المائي لا يمكن أن يبقى رهينة التوازنات الإقليمية وحدها.
في هذا الإطار، تبدو إعادة تفعيل التنسيق المائي مع سوريا ذات بعد يتجاوز اليرموك ذاته، إذ تمثل محاولة لإعادة بناء توازن إقليمي محدود في ملف المياه، قائم على التعاون الفني وتبادل البيانات وتحسين كفاءة الاستخدام، بدل الصدام أو المقاربات الأحادية التي برزت في عهد الرئيس السابق بشار الأسد.
فالطمأنة السورية لا تُقرأ فقط كرسالة ثنائية، بل كاعتراف مشترك بأن الندرة المائية أصبحت خطرًا وجوديًا يتطلب إدارة جماعية، خاصة في ظل تراجع موارد المنطقة بأكملها، من دجلة والفرات شمالًا إلى نهر الأردن جنوبًا.
غير أن هذا التعاون، على أهميته، لا يلغي حقيقة أن اليرموك لم يعد قادرًا على لعب دور المورد الاستراتيجي طويل الأمد للأردن، وهو ما يفسر اندفاع عمّان نحو مشاريع كبرى مثل الناقل الوطني وتحلية المياه في العقبة (سيوفر 300 متر مكعب) في محاولة لفك الارتباط التدريجي عن مصادر خاضعة للتوتر السياسي أو التغير المناخي. ومع ذلك، تبقى إدارة العلاقات المائية القائمة ضرورة لا غنى عنها، لأن أي خلل في أحد الأحواض ينعكس على المنظومة بأكملها.
وهكذا، يجد الأردن نفسه اليوم أمام مشهد مائي معقّد، تتقاطع فيه شراكة واقعية مع سوريا لإدارة الندرة في حوض اليرموك، مع علاقة مائية مشروطة مع إسرائيل في نهر الأردن ووادي عربة، ومع سباق داخلي لحماية ما تبقى من مخزونه الجوفي وبناء بدائل مستدامة. وفي قلب هذا المشهد، تتحول المياه إلى معركة صامتة على السيادة والاستقرار، تُدار بأدوات فنية وقانونية وسياسية في آن واحد.
وفي المحصلة، لم يعد حوض اليرموك خط تماس أو عنوان خلاف، بل مرآة لأزمة إقليمية أوسع، تكشف أن مستقبل الاستقرار في المشرق لن تحدده وفرة الموارد، بل القدرة على إدارة الندرة بعدالة وعقلانية، وبناء شراكات تحمي حق الشعوب في المياه بعيدًا عن منطق الهيمنة أو الإملاء.
وفي هذا الامتحان الصعب، لا يملك الأردن ترف الانتظار، بل يواصل إعادة صياغة أمنه المائي في زمن الشح، مستندًا إلى الواقعية لا الأوهام، وإلى التعاون حيثما أمكن، والاعتماد على الذات حيثما يجب.












































