في بلد كالأردن، ما زالت القيم المجتمعية الراسخة تلعب دورًا محوريًا في رأب الصدع وإعادة اللحمة بين الناس، وما زال الصلح العشائري يُعدّ إحدى أقوى أدوات إصلاح ذات البين، وتحقيق السلم الأهلي.أحد أوجه الانتقاد الرئيسية للعفو العام السابق هو تجاهله لدور العشائر الأردنية وتقاليدها في حل النزاعات والمشاجرات العائلية والعشائرية.
هناك آلاف القضايا التي انتهت بإسقاط الحق الشخصي من قبل ذوي المجني عليهم، بعد صلح مكتمل الأركان، موثّق، وموقّع عليه من الشيوخ والوجهاء والعائلات. ومع ذلك، لا يزال المحكومون في السجون، يقضون عقوباتهم بالحق العام..وهذا حق الدولة في الردع ولا أحد ينكر ذلك.
لكن قانون العقوبات الجديد، بتعديلاته الأخيرة، لم يمنح أصحاب الأحكام المرتفعة فرصة للاستفادة من العفو، ولا حتى من العقوبات البديلة، مما دفع مواطنين للاعتصام مرارا أمام البرلمان.
لماذا لا يُترجم إسقاط الحق الشخصي إلى قرار تخفيف أو عفو؟ إذا كانت الغاية من العقوبة هي تحقيق الردع وإرضاء شعور الضحية بالعدالة، فماذا يعني أن الضحية نفسها قد سامحت؟ ماذا يعني أن المجتمع تصالح، وأن الخصومة زالت، وأن الجميع اختار طيّ الصفحة؟
حين تُغلق أبواب القانون أمام هذا النوع من التسويات، لا نراعي أثر الصلح، ولا تمنح قيمة لإرادة المجتمع، تتحول إلى معادلة جامدة، تكرر العقوبة لأجل العقوبة، لا لأجل الإصلاح ولا الردع.
ربما العفو الشامل من الأمور التي لا تفرج الدولة عنها كثيرا وصعب المنال، ما يُطرح اليوم هو مقترح إنساني ومنطقي، قابل للتنفيذ فورًا: إصدار قرار خاص أو تعديل إداري يسمح بالإفراج أو العقوبات البديلة لمن جرى الصلح في قضاياهم، وتم إسقاط الحق الشخصي عنهم. لا نتحدث عن تجاوز للقانون، بل عن تفعيل لروحه العادلة.
الدولة التي تستند إلى مجتمع متماسك، عليها أن تعترف بدور هذا المجتمع في تحقيق الأمن والاستقرار. فالعشيرة، والصلح، ومجالس الجاهات، ليست بدائل عن القانون، لكنها أدوات مجتمعية تُكمّله، وتمنحه شرعية أخلاقية. تجاهل هذه الأدوات يُضعف ثقة الناس بمؤسسات الدولة، ويجعلهم يشعرون بأن صوتهم لا يصل، ومبادراتهم لا تُقدّر.
لطالما كانت العشيرة الأردنية حجر الزاوية في ترابط المجتمع المحلي، ويمثل شيوخ العشائر ووجهاؤها مرجعية اجتماعية هامة في فض النزاعات وتسوية الخلافات. وفي كثير من الأحيان، يتم التوصل إلى تسويات ودية وإصلاحات بين الأطراف المتنازعة عبر أساليب الصلح العشائري، التي تحظى باحترام واسع وتقدير من جميع الأطراف المعنية.
ثم إنّ العقوبات البديلة ليست بدعة قانونية، بل نهج حديث تتبناه الدول التي تسعى إلى تقليل الاكتظاظ في السجون، وإعادة دمج الأفراد في المجتمع، خصوصًا إذا لم يعودوا يشكلون خطرًا. فهل هناك اختبار لصدق الندم أقوى من مسامحة الضحية نفسها؟
إن اللحظة الراهنة تتطلب جرأة سياسية، وإنصافًا قانونيًا. تتطلب أن نعترف بأن الصلح ليس ضعفًا، بل قوة، وأن المسامحة ليست خروجًا عن العدالة، بل تجسيد لها. ولعل أبسط أشكال التقدير لمن تنازلوا، وصالحوا، وسامحوا، أن لا نترك أبناءهم في السجون، يُعاقبون على خصومة لم تعد قائمة.












































