من إشكاليّات النّقد العربيّ الجديد لشكري عزيز الماضي

الرابط المختصر

بادئ ذي بدء، فإنّ من مهامِ المقالةِ، أنّها ستقومُ باستخلاصِ مضامينَ ومرامي الكتاب استخلاصًا مجرّدًا وفقًا لمفهومٍ كلّي وشمولـي، من هنا، تجدرُ الإشارةُ، إلى أنّ التّلخيصَ ليسَ عملاً سهلاً كما يظن الكثيرون؛ إذ يتطلّبُ وقوفًا متأنيًا على الموضوعِ المطروح؛ لاستظهار الجوانب المهمّة والمضيئة.

على كلِّ حالٍ، صدرَ كتابُ "من إشكاليّاتِ النّقدِ العربيِّ الجديدِ" لأستاذِي الدّكتور شكري عزيز الماضـي في طبعتِهِ الأولى، سنةَ 1997م، عن المؤسسةِ العربيّةِ للدراساتِ والنّشرِ، ويتوزّعُ على مئتينِ وخمسٍ وثلاثينَ صفحةً، ويتضمّنُ مقدّمةً وسبعةَ محاور.

يهمّني أنْ أشيرَ في البدايةِ، إلى أنّهُ من الصّعوبةِ بمكانٍ الإحاطةُ بكلِّ الإشكالياتِ التي تعترضُ مسارَ النّقدِ العربـيِّ الجديدِ، لهذا؛ نلاحظُ دلالةَ العنوانِ ودقّته، بأنَّ المؤلّفَ وضعَ حرفَ الجرِّ (من)، مما يشيرُ إلى أنَّ الإشكاليّات المطروقة في الكتابِ جاءتْ على سبيلِ الذّكرِ لا الحصر، كما أحسبُ أنّ كلمةَ "إشكاليّات" مهمّة؛ لأنّها توحي بأنّ الحكمَ النّقديّ نسبـي غير مطلق.

 

إنّ المؤلِّفَ في المحورِ الأوّلِ الموسومِ بعنوانَ النّـصّ والإنسان والعالم، يرى أنَّ النّقدَ بمعناهُ العامّ نشاطٌ بشريٌّ، يعبّرُ عن حاجةٍ إنسانيّةٍ اجتماعيّةٍ أساسيّةٍ. 

كما يرى أنَّ النَّصَّ الأدبــيَّ مـادةُ النّقدِ الأدبيِّ، والممارسةَ النّقديّةَ حوارٌ نوعيٌّ وممنهجٌ مع النّصوصِ، ويخلصُ إلى أنَّ الرّؤيةَ النّقديـّةَ للنّـصِّ الأدبــيِّ، تتضمنُ في ثناياها رؤيةً للإنسانِ والعالمِ.

 

يذهبُ المؤلِّفُ في المحورِ الثّاني إلى أنّ تاريخَ النّقدِ الأدبيِّ يعكسُ إشكاليّةً أساسيّةً، تتمثّلُ في كيفيّةِ التّعاملِ مع النّصِّ، بحيث يتحددُ في التّركيزِ على العلاقاتِ الدّاخليّةِ للنّصّ الأدبـيّ، والاهتمام بالعلاقاتِ الخارجيّة، لذلك، تحدّثَ المؤلّفُ عن علاقةِ الأدبِ باللغةِ في إطارِ ما سمّاهُ بالنّقدِ اللغويِّ، مشيرًا إلى المنهجِ البنيويِّ في محاولةِ تطبيقِ علمِ اللغةِ العامِّ على الأدبِ ونقدِهِ، على أساسِ أنّ الظّاهرةَ الأدبيّةَ ظاهرةٌ لُغويّةٌ، وبالنّتيجةِ، وصلَ المؤلِّفُ إلى أنّه من العبثِ تعريفِ الأدبِ على أنّه تشكيلٌ لغويّ؛ لأنّه يؤدّي إلى إلغاء خصائصه.

 

أتفقُ مع رأي المؤلِّفِ في المحورِ الثّالثِ الذي يحملُ عنوانَ "غياب القيمة"، بأنّ النّقدَ لا يمكنُ أنْ يزدهرَ إلّا في ظلِّ جوٍّ يتمتّعُ بالحرّيةِ، وبـهذا، يرى بأنّ غيابَ التّقييمِ الفنّـيِّ والقيمةِ الجماليّةِ ومعاييرِها، وانحرافَ النّقد عن مهمّته الأساسيّة الفنيّة والتّاريخيّة، ظاهرةٌ تسمُ معظمَ التّجاربِ النّقديّةِ العربيّةِ الجديدةِ، مما يعني باختصارٍ، غياب التّعليل، والتّفسير، والتّمييز، والتّقدير، بحيث تتساوى النّصوصُ الجيّدة والرّديئة، وبهذا الصّدد، يرصد المؤلّف مظاهر غياب القيمة على الصّعيدين الأدبيّ والنّقدي، ويقفُ وقفةً مطولاً عند دراستين، هما:

- الصّورة الفنيّة في الشّعرِ الجاهليّ في ضوءِ النّقدِ الحديث لنصرت عبد الرّحمن.

- الصّورة في الشّعرِ العربيّ حتّى القرن الثّاني الهجري، دراسة في أصولها وتطوّرها لعلي البطل.

 

يرى شكري الماضي بأنّ الأسسَ النّظريّة التي استندَ إليها نصرت عبد الرّحمن في تجربته النّقديّة، دفعتهُ إلى التّعميم، والاضطراب، والتّعثر، وبالنّتيجةِ، ذهبَ إلى أنّ منهجَ نصرت يجافي روحَ النّقدِ الحديثِ من حيثُ تغييبُ القيمةِ الفنّيةِ في الشّعرِ المدروسِ، وتغييب المعايير النّقديّة القائمة على التّمييزِ، والتّعليلِ، والتّقديرِ، ويضيف إلى أنّ نصرت عبد الرحمن ينتهجُ نهجًا وصفيًا خاليًا من التّعليلِ، والتّفسيرِ، والتّقييم، ليغفل الحديث عن فنّية الصّورة وجماليتها.

على ذلك، يقيمُ المؤلِّفُ مقارنةً وصفيّةً بين الدّراستينِ شكلاً ومضمونًا، لينتهي إلى التّقاربِ في الأسسِ النّظريّةِ بين الدّراستينِ، إلّا أنّهما تتباينان بمفاهيمهما الأدبيّة ومقولاتهما النّقديّة عن النّقدِ الأسطوري الذي وضعهُ نور ثروب فراي، على أساسِ أنّ الأدبَ صورةٌ مكررةٌ ومنزاحة عن الأسطورة.

 

يخصصُ المؤلِّفُ في المحورِ الرّابعِ موضوعًا بعنوان البحث عن قوانينَ ثابتةٍ وشاملةٍ، ويستهلُّ المحورَ بالتّمييزِ بين علمِ الأدبِ والنّقدِ الأدبيّ، ويرى بأنَّ علمَ الأدبِ يتعاملُ مع النّصوصِ الشّفهيّةِ والمكتوبةِ لا بهدفِ تذوّقِها أو فهمها أو بيان جماليتِها وتقييمِها، بقدرِ ما يهدفُ إلى البحثِ عن قوانينَ ثابتةٍ وشاملةٍ متواترةٍ على عكسِ تمامًا ما نجدهُ في النّقدِ الأدبـيِّ، بحيثُ يصاغُ بطريقةٍ ليست نهائيّةً حاسمةً، لذا؛ غالبًا ما تكثر عبارات التّشكيك، والظّن، والتّرجيح، والاحتمال في النّقد الأدبيّ، من مثل: قد، ربّما، لعلّ، من المحتمل، من الممكن، أغلب الظّن، وغيرها. ومختصر القول: إنّ علمَ الأدب -كما يراه المؤلّفُ- يهتمُ بالعناصر الثّابتة في الأدب، والنّقد يهتم بالثّابت والمتغيّر، وتوضيح ذلك، أنّ علمَ الأدبِ يغفلُ الدّلالة؛ لأنّها ذاتيّة وشخصيّة ومتغيّرة، في حين أنّ النّقد يهتم بالدّلالة. 

ولجلاء الفكرة، يعرضُ المؤلّفُ كتابَ فلاديمير بروب الموسوم بعنوان مورفولوجيا الحكاية والخرافة، انطلاقًا من تساؤلٍ فيما إذا كان الكتاب في علمِ الأدب أو في النّقدِ الأدبـيّ، وعليه، يقررُ بأنّ كتابَ فلاديمير لا يندرج تحت إطار النّقد الأدبي، كونه يهتم بما هو عام وثابت في الحكايات.

 

في المحورِ الخامسِ وعنوانه ما بعد البنيويّةِ، يفردُ المؤلِّفُ موضوعًا عن التّناصِ، وأنا أجاري المؤلِّفَ بأنَّ هناك اتفاقًا ضمنيًّا بين النّقادِ على أنّ جوليا كريستيفا أوّلُ من تنبّه إلى التّناصِ، ويضيفُ بأنّ نقادًا توسّلوا به كصيغةٍ معرفيّةٍ نقديّةٍ في سبيلِ إرساءِ منهجٍ نقديٍّ جديدٍ، من هنا، يتوقَّفُ المؤلّفُ عند آراء الدّارسين حول مفهوم النّصِّ بأنّه نسيج من العلامات، ولوحة فسيفسائيّة من الاقتباسات، وسلسلة من العلاقات مع نصوص أخرى، وتداخل النّصّ مع نصوص أخرى، وغيرها من المفاهيم المتماثلة، وخلاصة ذلك كلّه، أنّ التّناصَ ينطوي على معنى التّداخل، والتّعالق، والتّوالد، والتّفاعل. 

وفقًا لهذا، يستنتجُ المؤلِّفُ بأنّ التّناصَ بلا حدود، حيوي، ديناميكي، متجدد، متغيّر، كما أنّ النّصَّ لا تحدّهُ قراءةٌ واحدةٌ، ولا ينطوي على دلالةٍ واحدة، بناءً على ذلك، يمكن لي القول بأنّ التّناصَ مصطلحٌ تفكيكي؛ كون التّفكيكيّة لا تقيم وزنًا لنظريّةِ الأنواعِ الأدبيّة، هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى، فإنّ القراءةَ التّفكيكيّةَ مفتوحةٌ، ومتغيّرةٌ، وغيرُ ثابتة، والنّصّ من المنظورِ التّفكيكيّ بمنزلةِ بصلةٍ ضخمةٍ لا ينتهي تقشيرُها. 

تبعًا لهذا، فإنّ أدواتَ النّاقدِ في هذا المجالِ كما يراها المؤلِّفُ، تتمثّلُ في النّصوصِ وتتحددُ مهمّته في قدرته على اكتشافِ العلاقاتِ القائمةِ بين النّصِّ والنّصوصِ، وعلى العمومِ، فإنّ التّناصَ نتاجٌ لصراعِ الحركاتِ المنهجيّةِ المتجددةِ، وينتمي إلى ما يسمّى بحركةِ ما بعد البنيويّة. بالنّهايةِ، واستنادًا على ما سبق، يقدّمُ المؤلِّفُ رؤيةً -تبدو لي مقنعة-، بأنّ التّناصَ ليس منهجًا، ولا تقنية، ولا ظاهرة يمكن رصدها في الأدبِ شعرًا كان أم نثرًا، والسّبب ببساطةٍ، أنّ أصحابَ المفهومِ يرون أنّ النّصَّ محكومٌ حتمًا بالتّناص.

 

يتحدّثُ المؤلِّفُ في المحورِ السّادسِ عن إشكاليةِ العلاقةِ بين الذّاتِ والآخَر، من منطلقِ أنّ الخطابَ النّقديِّ العربيِّ الحديثِ والجديد، وُلِدَ ونَما وتتطوّر متأثرًا بالغربِ ومعطياته ومنجزاته.

لهذا، أجدنـي متفقًا مع المؤلِّفِ بأنّ تشكيلَ صوتٍ أدبيٍّ ونقديٍّ خاص، يسهمُ في تشكيلِ علاقةٍ متوازنةٍ بين العربِ والغربِ، من هنا، يطرح المؤلِّفُ أسئلةً عن إسهامات الخطاب النّقديّ الجديد في تشكيلِ العلاقةِ بين الذّاتِ والآخَرِ الغربِ، وعن الكيفيّةِ التي حاولَ من خلالها تشكيل تلك العلاقة، بناءً على ذلك، يؤكّدُ المؤلِّفُ حقيقةً بأنّ بدايةَ الحداثةِ في الأدبِ والنّقدِ، تكمنُ في اللقاءِ الاستعماري الحضاريّ مع الغربِ، لا يكتفي المؤلف بهذا، ليتتبع مراحل الحداثة الأدبيّة والنّقدية العربيّة على نحو ما تتمثل بالمراحل التّالية:

- مدرسة الإحياء.

- محاكاة الأعمال الأدبيّة الأوروبيّة

- الأدب المهجري.

- ظهور أنواع أدبيّة جديدة، مثل: المسرحية، والرّواية، والقصّة القصيرة.

- رفض الظاهرة الأدبيّة والنقديّة العربيّة الحديثة.

- ولادة الظاهرة الأدبيّة العربيّة الحديثة في ظلّ مناخ غير طبيعي. 

 

من الهامّ الإشارة هنا، أنّ المؤلّفَ يثيرُ أسئلةً كثيرةً جدًّا دون تقديم إجابات مباشرة وجازمة ووافية، خصوصًا فيما إذا كان النّقاد العرب يمتلكون منهجًا نقديًّا، ويذهب إلى أنّ المناهجَ المجتمعة تكفل لنا صحّة الحُكم على الأعمالِ الأدبيّةِ وتقويمها تقويمًا كاملاً، وعلى أيّةِ حالٍ، يصل المؤلّفُ إلى أنّ العقلَ النّقديّ العربيّ منبهرٌ بالنّموذجِ النّقديّ الغربي، وأنّ حركةَ النّقد العربي الجديد تمثّلت بالقطيعة مع التّراث النّقدي العربي الحديث والقديم.

 

يقدّمُ المؤلِّفُ في المحورِ السّابعِ والأخير دراسةً تطبيقيّةً لنصٍّ روائيٍّ ولا روائيّ، وتعدُّ ضمنَ الدّراساتِ الشّكليّةِ، كونها تهتمُ بالشّكلِ أكثرَ من المحتوى، كما تهدفُ إلى بيانِ إمكانيّةِ الكشفِ عن نظامِ النّصِّ، وبيانِ الخطواتِ الإجرائيّةِ التي يمكنُ من خلالها دراسة النّصِّ الأدبيِّ؛ للتأكيدِ بأنّ النّصوصَ الأدبيّةَ الجديدةَ تفرضُ معاييرَ نقديّةً مرنةً ومتحرّكةً. 

وعليه، يأخذُ المؤلِّفُ نصّ "مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة" لفاضل العزّاوي أنموذجًا للرّوايةِ المتمرّدةِ على كلِّ المعاييرِ الجماليّةِ والنّقديةِ المتداولةِ في تجسيدها لتجربةِ الغموض، والعبث، واللامعقول، في شكلٍ يتصفُ بالتّفككِ، والتّبعثرِ، والتّشتتِ، وانعدام التّرابط المنطقي واللغوي من خلالِ تعابيرَ وتراكيب غير مستساغة. 

ويلاحظُ المؤلِّفُ بأنّ نصّ العزّاوي يتحرّك بين النّثر والشّعر، إضافةً إلى أنّ المناخَ النّصّي يجسّد حالةَ الغرابةِ، والقتامةِ، والكآبةِ، والسّوداويّةِ، في ضوءِ ذلك، يستنتجُ المؤلّفُ أنّهُ أمامَ ساردٍ إشكالي، قلق، حائر، غامض، تائه، غريب، ويقررُ بأنّ الكاتبَ يستندُ في تجربته إلى فلسفةِ العبثِ والوجوديّة، في محاولةِ تطبيقِ أفكارِ سارتر وألبير كامي من حيثُ العبث، والوعي، والرّغبة، والصّراع، والحرّية المطلقة، تأسيسًا على هذا، أمكن للمؤلِّف شكري الماضي أنّ يقول بأنّ شكلَ روايةِ العزّاوي جاءَ كتعبيرٍ عن غموضِ الحياةِ، وعبثيتها، ولا معقوليتها، إضافةً إلى ما تقدّم، تجسّد الرّواية لونًا من الاحتجاجِ، والتّمرّدِ على وضعِ الإنسانِ المتردّي.

 

وفي المحصّلة النّهائيّة، يمكن أن يلاحظ القارئ بأنّ الكتاب يثير أسئلة أكثر مما يقدم من إجابات، ويطرح قضايا نقديّة كثيرة ومتداخلة، ما جعل الكتاب يتصف بالكثافة، والجدِّية، والحيويّة، والعمق. وأخيرًا، فإنّ الخلاصةَ العامّةَ التي يمكن الخروجَ بها، أنّ جهودَ أستاذي الدّكتور شكري عزيز الماضي في الكتابِ، تهدفُ إلى تأكيدِ أزمةِ النّقد العربـيّ الحديثِ والجديدِ وإشكالياته، وبعدُ، يشعرُ القارئُ بضرورةِ طرحِ تساؤلٍ فيما إذا كان بالإمكانِ للدّرس العربي ونقده تجاوز الإشكاليّات والأزمات النّقديّة.   

Y

● باحث وناقد، حاصل على درجة الدكتوراه في الأدب والنّقد الحديث

أحمد البزور، مواليد الزّرقاء، سنة ١٩٩٠، حاصلٌ على درجة الدّكتوراه في الأدب والنّقد الحديث من الجامعة الأردنيّة، وعضو في الاتّحاد الدّولي للغة العربيّة، ولديه العديد من الأبحاث المنشورة في مجّلات محليّة وعربيّة محكّمة، وكتب عددًا من المقالات والمراجعات عن الأدب والنّقد في الصّحف والمواقع الإلكترونيّة المتخصصة.