يكشف التقرير انطلاقة جديدة لتمكين النساء الريفيات في الأردن اقتصاديا، من بدايات بسيطة في تربية النحل إلى مصدر دخل لأسرهن، بفضل مشاريع تدريب متخصصة، قصص نجاح رغم تحديات استدامة تفرضها تغيرات المناخ.
في قرية برما، على تخوم جبال جرش الشمالية، كانت ابتسام السلامات تستيقظ كل صباح قبل 2019 وهي تحصي ما تبقى من الـ 250 دينارا التي يتقاضاها زوجها المتقاعد، كأم لأربعة أبناء، فواتير تتراكم، وخوف دائم من الغد، في بيئة ريفية بسيطة، غالبا لا مصدر دخل سوى الزراعة.
سعت ابتسام إلى مشروع يدعم دخل أسرتها ، فاختارت النحل بالرغم من ملاحظتها لتذبذب المواسم المطرية وارتفاع درجات الحرارة "كان المشروع الوحيد الذي لا يحتاج رأس مال كبير، ويبقيني قريبة من أولادي"، تقول بابتسامة راضية.

طريق سد الفجوة
في ربيع 2024م، انضمت إلى مبادرة لجنة المرأة بقيادة خبيرة تربية النحل منى المنفلوطي وعضوة اتحاد النحالين الأردنيين، حيث تلقت تدريبا مع 79 سيدة بدأن في تربية النحل في مناطقهن الريفية، وكانت أغلبهن في محافظات الشمال ، اربد، جرش، قبل ذلك، وبحسب دائرة الإحصاءات العامة بلغ عدد مربيات النحل في الأردن 32 من الإناث لعام 2023م مقابل نحو ألفين من الذكور.
تقول المنفلوطي: "هدفنا تحسين دخل النساء، وتقليص الفجوة الجندرية في تربية النحل في الأردن، وحماية التنوع الحيوي في تلك المناطق، تدربت السيدات على يد خبراء من الأردن ولبنان على طرق حديثة في استخلاص حبوب اللقاح ومنتجات أخرى وتسويقها"، وبحسب المنفلوطي، لم يكن عدد النحالات المنتسبات إلى اتحاد النحالين يتجاوز سبع سيدات فقط ، بعد التدريب زاد 15 سيدة.
مقطع فيديو: منى المنفلوطي تتحدث عن المبادرة
قبل انضمامها إلى الاتحاد، استفادت ابتسام من تدريب مشروع ممول كنديا عام 2019م، حيث تعلمت مبادئ إدارة المشاريع، التسويق والإدارة المالية، ومع الوقت، حولت ساحة منزلها إلى استراحة سياحية، وبدأت تنوع منتجاتها بفضل تدريب لجنة المرأة، لتنتج العكبر، وغذاء الملكات، صابون العسل، حبوب اللقاح، و سم النحل.
لم تكن ابتسام وحدها المستفيدة من مبادرة لجنة المرأة، فالسيدة رولا الرجا، من جرش،خاضت تجربة مماثلة،وهي أم لخمسة أبناء، أكدت أن منتجاتها ساعد أسرتها في تخفيف أعباء المعيشة من العجز المالي الشهري.
إثراء الغطاء النباتي
للحفاظ على صمود مشروعها أمام الظروف المناخية، لجأت ابتسام إلى زراعة نباتات برية، مثل الزعتر والميرمية باستخدام تقنية الزراعة المائية، على مساحة تقارب الدونمين حول منحلها، تقول: "أعتمد على المشتل لتوفير غذاء مساند للنحل بسبب الرعي الجائر وتراجع الأمطار." ما ذكرته يتسق مع ما ورد في التقرير الإحصائي لوزارة الزراعة (2019–2023) حول تذبذب الأمطار في جرش.
ينسجم نشاطها مع التوجه الوطني لحماية التنوع الحيوي، كما ورد في الاستراتيجية الوطنية لوزارة البيئة 2023–2025، المنسجمة مع الهدف 15 من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، حماية النظم الايكولوجية ووقف فقدان التنوع البيولوجي.
ومع تحسن الدخل في هذه المناطق، يقول محمد الربابعة خبير تربية النحل ونقيب النحالين: " إن مثل هذه المبادرات ليست رفاهية، بل ضرورة بيئية في ظل تقلص الموائل الطبيعية واستخدام الزراعة المكثفة والمبيدات" ويضيف أن العلاقة بين النحل والنباتات "علاقة بقاء متبادلة" تمتد إلى 160 مليون سنة، مؤكدا أن زراعة دونم واحد لا تكفي لدعم ثلاث أو أربع خلايا نحل، ما يجعل حماية النباتات البرية مسألة ملحة.

وبينما يركز الربابعة على التحديات داخل القطاع نفسه، يتناول عمر الشوشان - خبير التغير المناخي والسياسات المناخية - تأثير التغير المناخي على المشهد البيئي كاملا، بالقول: "كلما كانت الأنظمة البيئية أكثر صحة وتنوعا، كانت المجتمعات أكثر قدرة على الصمود"، مؤكدا أن تقلص المساحات الخضراء وتراجع الملقحات إثر التغيرات المناخية المتسارعة يزيدان الضغط على المجتمعات الريفية ويهددان الأنظمة البيئية.

من برما إلى أم قيس… صعود نساء أخريات
توسعت ابتسام لاحقا، وشاركت في أول مهرجان للعسل في الأردن صيف 2025م، لم تشأ أن يكون نجاحها فرديا، تعاونت مع عدد من مربيات النحل في منطقتها؛ لتسويق منتجاتهن عبر استراحتها السياحية، تقول:" كلما جاء وفد سياحي، أتفق معهن كل سيدة تعرض منتج واحد، فواحدة تبيع العكبر، وأخرى صابون العسل، وأنا سم النحل، وبذلك يستفيد الجميع".
أما على مستوى أسرتها، فتقول:" مكنني من دفع أجرة سكن أبني الجامعي، وهذا بحد ذاته ريحني كثير"
ومن برما إلى ملكا، فأم قيس، تبرز قصة أخرى، تزامنت مع إطلاق مشروع لجنة المرأة في اتحاد النحالين، مشروع "البنية التحتية الخضراء" بدعم الحكومة الألمانية وتنفيذ GIZ بالشراكة مع الجمعية الملكية لحماية الطبيعة عام 2024م، في نهاية التدريب حصلت كل سيدة على خلية نحل ومعدات لتبدأ مشروعها الخاص.
كانت الثلاثينية براءة ملكاوي من بين المتدربات، وهي خريجة تغذية، ظلت تبحث عن عمل لنحو عشر سنوات، بدأت بخلية واحدة تنقلها إلى أم قيس الغنية بالنباتات البرية بحسب قولها، وبفضل العناية الدقيقة، تمكنت من إنتاج مستحضرات طبيعية للبشرة، انعكست مباشرة على تحسين دخل أسرتها، والديها وأربعة إخوة على مقاعد الدراسة.
تصف براءة سعادتها بهذا الإنجاز بالقول:" تربية النحل أسعدتني كثير مع أنها ليست بالسهلة، لكن غلته مربحة والحمد لله، تعرفت على عالم النحل، وصرت قادرة على مساعدة أهلي" مؤكدة أنها تخطط للتوسع بزراعة نباتات مثل إكليل الجبل والزعتر والميرمية لدعم مشروعها وزيادة عدد الخلايا.

تعكس قصص هؤلاء النساء أهمية تمكين النساء اقتصاديا، فلقد سجل مؤشر الفجوة الجندرية العالمي (Global Gender Gap Report) تحسنا طفيفا في الأردن بين 2020 و2025، من 138 نقطة إلى 122 نقطة، رغم الحاجة لمزيد من الدعم.
وتعلق نهلة الرفاعي، مديرة برنامج العدالة الجندرية في اوكسفام الأردن :" "الاستثمار في قدرات النساء الاقتصادية لا يعزز الدخل فحسب، بل يقوي استقلاليتهن في اتخاذ القرار ويتيح لهن المشاركة في صنع حلول مستدامة لمجتمعاتهن"، وتضيف أن اوكسفام تنطلق من رؤية نسوية، ترى أن مواجهة تغير المناخ قضية عدالة اجتماعية مرتبطة بحقوق النساء الريفيات الأكثر عرضة لآثار تغير المناخ.
تربية النحل فلسفة صمود
توضح منى المنفلوطي، أن المردود المالي يمثل مصدر دخل مساند، بأسعار إذ تتراوح بين 20–25 دينارا للكيلو للعسل وشمعه، و75 قرشا لغرام للعكبر، و ونحو 3 إلى 4 دنانير لغذاء الملكات، بينما يصل سعر سم النحل إلى 75–100 دينار للغرام، نظرا لصعوبة انتاجه، إذ يحتاج لتوظيف عشر خلايا من النحل، أما الصابون يتراوح سعره بين ثلاثة دنانير فأكثر بحسب المكونات، وتضيف أن هذه الإيرادات تمكن النساء من تغطية احتياجات أسرهن وتوسيع مشاريعهن المنزلية.
من هذه الزاوية، يرى الشوشان أن التغيرات المناخية والتداخلات الاقتصادية والمناخية الحادة تفرض تحولا نوعيا؛ لرسم مسار شامل يعزز الصمود ،ويولد فرص نمو تستند إلى العدالة الاجتماعية والمشاركة، مشيدا بقدرة النساء على تنظيم مشاريع منزلية، مشيرا إلى برامج دعم سلاسل القيمة الريفية المقاومة لتغير المناخ كمصدر دخل للنساء.
في المقابل، يوضح الربابعة أن القطاع يحتاج الكثير للنهوض ، يقول: "تربية النحل قطاع واعد جدا في الأردن، لكنه لا يحظى باهتمام كاف في الأردن؛ لعدم إفراد مديرية مستقلة للنحل، رغم قدرة القطاع على رفع دخل الأسر الريفية وتعزيز التنوع البيولوجي"، مشيرا لأهمية النحل في عملية التلقيح الطبيعي وحماية النباتات البرية.
وعلى مستوى السياسات المستقبلية، بدأت تظهر مشاريع جديدة أخرى تراعي النوع الاجتماعي، إذ صادقت رئاسة الوزراء مؤخرا 2025م على مقترح مشروع نال موافقة صندوق المناخ الأخضر للتمويل، مشروع JILMI تضمن أنشطة فرعية منها تدريب 150 أسرة على تربية النحل، في منطقة اليرموك شمالا 29 وفي الكفرين أسرة 48 بينما 73أسرة في سد الملك طلال كمصدر رزق للتكيف مع تغير المناخ.
تحديات الاستدامة
لكن، ومع الواقع المناخي في الأردن، تواجه تلك المشاريع تحديات، تتأمل ابتسام موجات الحر، ويقلق براءة الصقيع وتسويق المنتجات، إذ تعتمد حاليا على صفحات التواصل الاجتماعي، ويرى الشوشان في "التمويل" أحد أعقد التحديات ، إذ تميل بنوك التمويل المناخي لمشاريع التخفيف لا التكيّف لأنه مربح، رغم أن التكيف يحمي المجتمعات اليوم قبل الغد حسب تعبيره، وهذا ما أفصحت عنه مذكرة خيارات توسيع التمويل للمناخ والطبيعة أن الأردن يواجه قيودا على خيارات التمويل.
تقول الرفاعي:" لا يكفي إشراك النساء كمستفيدات، يجب أن يكون لهن صوت في صنع السياسات والتخطيط للموارد الطبيعية" وتشدد على أن استدامة المشاريع تتطلب بيئة تمكينية، تمويلا ميسرا، ووصولا للأسواق، ومشاركة النساء في صنع القرار ؛ لضمان أثر طويل الأمد على الاقتصاد الأسري والعدالة.
بعد اختتام مؤتمر الأطراف 30 في بيليم، أصبح واضحا أن الدول النامية، بما في ذلك الأردن، ستواجه تحديات أكبر في الحصول على التمويل، من هنا يؤكد الشوشان أن إبراز نماذج محلية ناجحة بقيادة النساء هو مفتاح لإقناع الممولين، داعيا إلى بناء تحالفات جنوب–جنوب للضغط نحو مضاعفة التمويل.
وفي الوقت الذي تتجادل فيه الدول حول مليارات التمويل، تظهر قصص النساء في هذا القطاع نسخة مصغرة لما يعنيه التكيّف وتعزيز سبل العيش في المناطق الريفية، من حلول محلية تقودها نساء، تستند إلى الطبيعة، تكثف ابتسام ورولا وبراءة الجهود على أمل الاستدامة.











































