قراءة نصيّة في رواية بلد المحبوب ليوسف القعيد
يوسف القعيد واحدٌ من الأدباءِ المصريين، روائيّ وقاص، ولد سنة 1944م، نشر العديد من الرّواياتِ والقصص، هذا وقد استأثرتْ أعمالهُ في النّقدِ الأدبيّ بعنايةِ الباحثين والدّارسين. أصدر القعيد العديد من الأعمالِ الرّوائيّة، نذكر منها على سبيلِ المثالِ لا الحصر: "الحداد، وأيام الجفاف، والبيات الشّتويّ، وغيرها مما لا يتسع المجال هنا لذكرها، وتتويجًا لذلك، صدرتْ رواية "بلد المحبوب"، ذات السّارد المشارك والبطل، سنة 1987م، عن دارِ الشّروق بعمّان، يستعيد من خلالها الوقائع والحوادث التي تشهد عودته من بلدِ الغربةِ إلى بلد الألفة؛ مصر.
وهذه التّوطئة من المقالة، لا تدعي الإلمام بالسّيرةِ الذّاتيّة بقدرِ ما تتوخّى أن تجلو صورة من صورِ الكاتب.
العنوان
العنوان في معناه الظّاهريّ يشكّل إشارة مكانيّة، ولفظة المحبوب، تثير حيزًا للألفةِ في ذهنِ القارئ، إلّا أنّ الحقيقة الأكبر من الواقعِ الظاهريّ، أنّ المكانَ في الرّوايةِ دالٌ مثقل بالغربةِ، ويفهم من ذلك، أنّ البلد كونه حيزًا مكانيًا يتحوّل من فضاءِ للألفةِ إلى فضاءٍ للغربة، وإذا استثنينا هذه الإشارة، يمكننا القول: إنّ رواية بلد المحبوب، تتراوح بين الواقعيّة والرّمزيّة، الحقيقة والخيال، وعلى هذا الأساس، يراوح القعيد في روايته بين السّرد الذّاتي إلى السّرد الموضوعيّ.
ثنائيّة الألفة والغربة
تبعًا لذلك، يصف القعيد تفاصيل الحياة وتغيّراتها الجذريّة والسّلبيّة الّتي طرأتْ على بلده، يسافر بطل الرّواية السّارد، وقد تقاذفتهُ العواصم والمدن، ويعود من الخارجِ بعد أن أمضى عشر سنوات، ليتفاجأ بالتّغيراتِ والأوضاع، وليجد نفسه غريبًا في بلده تمامًا، كما لو أنّه في بلادِ الغربة.
تعزيزًا لما سبق ذكره، يمكن الإشارة إلى أنّ الرّواية قصّة بحثٍ عن فتاةٍ كان السّارد يحبّها، ويأمل أن يجدها في انتظاره، حتّى أخبرهُ صديقهُ بأنّها تزوّجت من رجلٍ آخر، وقد سكنت بين أنهارٍ ثلاثة، وما إن يلتقي بها عند نهرِ النّيلِ وهمّت بالشّربِ حتّى سقطت وغرقت.
ومما يلاحظ أنّ المحبوبة والبحث عنها أخذ حيزًا كبيرًا في معماريّةِ الرّواية، ذلك بوضعِ القعيد المحبوبة في بؤرةِ الأحداث، واتّخاذها محورًا لروايته. وعلى العمومِ، تحمل المحبوبة في الرّوايةِ دلالة رمزيّة على الوطنِ؛ فهي شخصيّة لا تعدو كونها نموذجًا مصغّرًا ممن ضحّوا بأرواحهم وأنفسهم من أجلِ الوطن، في مقابلِ الحبيب يمثّل نموذجًا للعاجزين إلى جانبِ إظهار العجزِ على مدّ يد العون.
انطلاقًا من هذه الوجازة، فإنّ السّاردَ يوغل في الخيالِ، ليتساءل القارئ عن اسمِ البطلِ والمحبوبة، كما يتحوّل نهر النّيل في الرّوايةِ بالنّسبةِ للسّاردِ من مكانٍ محبوب إلى مكانٍ محظور ومرعب وغادر، فقد أخذ النّيل محبوبته وغرقت، ولم يبذل أي محاولة لإنقاذها، ولم يصرخ طلبًا للنّجدة، وقد أوهم نفسه أنّها تعرف العوم، وأنّها سبّاحة ماهرة، وعلى هذا النّحو، يرتسم المشهد في الرّواية ما يمكن أن نسمّيه بالصّورةِ الفاجعة، من خلالِ استخدام السّارد العنصر المفاجئ والمباغت الذي كسر احتماليّة توقّع القارئ.
الشّخصية السّاردة
الشّخصيّةُ السّاردة في هذه الرّواية شخصيّة غير سويّة، مهزومة ومنكسرة، تُعاني حالة من العصابِ والاضطراب النّفسيّ، ذلك على النّحو الّذي يتراءى في مستوى العلاقة الشّخصيّة والاجتماعيّة. فالمحبوبة لا وجود لها في الواقع، وقصّة غرقها قصّة مختلقة، ومجرّد توهمات، ذلك من خلال الشّكوك الّتي أوغرت قلب السّارد، فجعلته يعترف أمام ضبّاط المباحث بجريمة لم يرتكبها أصلاً. ويمكن وصف الشّخصيّة في الرّواية بلا تحفّظ بالمخبولة.
من خلال ما تقدّم يمكننا القول: إنّ الإحساس بالخيبة والتّقصير والذّنب والشّعور الفاجع بالضّياع سيطر على السّارد، لتتسم نهاية الرّواية بالمأساويّة، والعبثيّة، والغرائبيّة.
من هنا، تكمن السّمة الرّئيسة لهذا السّارد عبر دخوله في تناقضات مع ذاته، وبالنّتيجة، طفق السّارد يواري عجزه وفشله باختلاقِ حكاية وهمية مع الفتاة؛ المحبوبة، الّتي من شأنها أن تسهم في تحقيق التّطهير الرّوحي والوجدانيّ.
وأيًا ما يكن الأمر، يستطيع القارئ القول عن التّكنيك الذي يتبعهُ القعيد في نسجِ روايته: إنّه يتراوح بين الواقعيّ والغرائبيّ، الحقيقة والخيال، وبطريقةٍ فنيّة أقام القعيد الرّواية على قصّةٍ رئيسة، تمثل المحبوبة إطارًا للحوادث، وتوظيف أسطورة عروس النّيل، حيث تقدّم أجمل الفتيات كنوعٍ من التّضحية، أملاً في عطاءِ النّيل.
باحث وناقد مستقل ـ الأردن.