لم يكن وصول المنتخب الأردني (النشامى) إلى نهائي كأس آسيا 2023 وتصدره لمشهد التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2026 مجرد طفرة لحظية أو وليد صدفة عابرة، بل هو نتاج تراكمي معقد تضافرت فيه عوامل فنية وإدارية وبشرية في توقيت مثالي.
هذا التحول الجذري نقل الأردن من مجرد منتخب "عنيد" يكتفي بالمشاركات المشرفة، إلى منتخب "بطل" يهابه كبار القارة الصفراء، ويمتلك شخصية الفوز في أحلك الظروف.
هذا التقرير يغوص في عمق هذا التحول، مفككاً الأسباب الجوهرية التي صنعت هذا "الربيع الكروي" الأردني.
المحور الأول: التطور التكتيكي.. رحلة من الواقعية الدفاعية إلى الشراسة الهجومية
بدأت ملامح هذا التطور تتشكل فعلياً في حقبة المدرب العراقي عدنان حمد (2021-2023)، الذي استلم منتخباً يعاني من اهتزاز الثقة وتراجع النتائج عقب الخروج من تصفيات 2022. عمل حمد بذكاء على إعادة الهوية الدفاعية للنشامى، معتمداً على تنظيم كلاسيكي صارم ورسم خططي (4-2-3-1) يركز على الواقعية وعدم المجازفة. ورغم التحفظات الجمالية على الأداء حينها، إلا أن هذه المرحلة كانت ضرورية للغاية لترسيخ "أرضية صلبة" من الانضباط التكتيكي، حيث نجح في إعادة الصلابة للفريق والوصول به لربع نهائي كأس العرب 2021، مما مهد الطريق لمن سيأتي بعده للبناء على أساس متين غير قابل للانهيار بسهولة.
جاءت النقلة النوعية الكبرى مع تولي المدرب المغربي حسين عموتة الدفة الفنية، حيث أحدث ثورة تكتيكية جريئة نقلت المنتخب من مرحلة "رد الفعل" وانتظار الخصم، إلى مرحلة "التحولات الفتاكة" والمبادرة. كان القرار الجريء بالتحول إلى الرسم التكتيكي (3-4-3) هو حجر الزاوية في هذا التغيير، إذ ناسب هذا الأسلوب خصائص اللاعب الأردني بشكل مذهل. فوجود ثلاثي دفاعي (عبدالله نصيب، يزن العرب، وسالم العجالين) منح الفريق عمقاً دفاعياً صلباً سمح بتحرير الأظهرة، ليتحول إحسان حداد ومحمود المرضي إلى أجنحة طائرة ومفاتيح لعب هجومية حقيقية بدلاً من تقييدهم بالأدوار الدفاعية البحتة، مما خلق كثافة عددية في وسط الملعب والهجوم أربكت الخصوم.
تجلى نضج هذا الفكر التكتيكي في إدارة المباريات الكبرى، وخصوصاً ملحمة نصف نهائي كأس آسيا ضد كوريا الجنوبية. لم يكتفِ الأردن بالدفاع والتكتل في الخلف كما جرت العادة أمام عمالقة القارة، بل مارس الفريق ضغطاً متوسطاً (Mid-block press) مدروساً بعناية، مما أجبر نجوم كوريا المحترفين في أوروبا على ارتكاب الأخطاء. هذا الأسلوب لم يحرر طاقات الثلاثي الهجومي (التعمري، النعيمات، وعلوان) في المساحات الواسعة فحسب، بل عكس تطوراً هائلاً في العقلية من "الخوف من الكبير" إلى الجرأة على استغلال نقاط ضعفه ومعاقبته، وهو ما يُعد التطور الأبرز في شخصية المنتخب الحديثة.
المحور الثاني: أثر الاحتراف الخارجي وصعود "الجيل الذهبي"
لعل العامل الحاسم الذي ميز هذا الجيل عن سابقيه هو كسر حاجز المحلية والخروج إلى فضاء الاحتراف الخارجي، وهو ما انعكس بشكل مباشر على ثلاثة جوانب رئيسية أولها النسق البدني العالي. وجود موسى التعمري في الدوري الفرنسي (ليغ 1) مع نادي مونبلييه لم يكن مجرد انتقال لاعب، بل كان انتقالاً لمعايير اللعب الأوروبية إلى داخل غرفة ملابس المنتخب. التعمري بات يلعب بنسق بدني وقدرة على الركض والالتحام والارتداد الدفاعي طوال 90 دقيقة تفوق المعدلات الآسيوية المعتادة، مما رفع سقف التحدي لباقي زملائه الذين اضطروا لرفع جاهزيتهم لمجاراته، فأصبح المنتخب يمتلك محركاً لا يهدأ يسحب الفريق بأكمله نحو الأمام.
توازى التطور البدني مع تطور مذهل في الحدة الذهنية والشخصية، بفضل احتراف نجوم آخرين في دوريات تنافسية. برز يزن النعيمات في الدوري القطري الذي يضم نخبة من نجوم العالم، مما منحه برود أعصاب استثنائياً أمام المرمى، فلم نعد نرى المهاجم الذي يرتبك ويهدر الفرص السهلة في اللحظات الحاسمة، بل أصبح "قناصاً" يترجم أنصاف الفرص إلى أهداف. كذلك الحال بالنسبة لعلي علوان ونور الروابدة، حيث صقل الاحتراف شخصياتهم وجعلهم معتادين على ضغط المباريات الجماهيرية والسفر المستمر، مما أزال تماماً "رهبة" الموقف عند مواجهة منتخبات بحجم اليابان أو كوريا الجنوبية.
هذا المزيج من الاحتراف خلق حالة من التحرر من "عقدة النقص" التاريخية. في الماضي، كان اللاعب الأردني يدخل المباريات الكبرى وهدفه الضمني هو الخروج بأقل الخسائر أو تقديم أداء مشرف، أما الجيل الحالي، وبفضل احتكاكه اليومي بمستويات عالية، بات يدخل الملعب وعينه على الفوز ولا شيء غيره. تصريحات اللاعبين مثل "نحن لا نخشى أحداً" و"جئنا لننافس على اللقب" لم تكن مجرد شعارات للاستهلاك الإعلامي، بل كانت انعكاساً حقيقياً لعقلية احترافية ناضجة تؤمن بقدراتها وتعرف كيف تدير المواجهات الكبرى بذكاء وثقة.
المحور الثالث: الاستراتيجية والإدارة الفنية بعيدة المدى
يحسب للاتحاد الأردني لكرة القدم تبنيه لرؤية استراتيجية واضحة تمثلت في الاعتماد على المدرسة المغربية التدريبية، بداية بحسين عموتة وصولاً إلى جمال سلامي. لم يكن هذا الخيار عشوائياً، بل جاء إدراكاً لكون هذه المدرسة تجمع ببراعة بين الانضباط التكتيكي الصارم، الذي يناسب الإمكانيات البدنية للأردن، وبين المهارة الفنية العالية والمرونة، وهي توليفة تشبه إلى حد كبير هوية الكرة الأردنية التي طالما لُقبت بـ "برازيل العرب" لمهارات لاعبيها الفطرية. الانتقال السلس بتعيين جمال سلامي خلفاً لعموتة ضمن استمرار نفس الفلسفة وعدم هدم المكتسبات، وهو ما يعكس نضجاً إدارياً يسعى للاستقرار الفني وليس التغيير لمجرد التغيير.
كما أن التخطيط لم يعد منصباً على بطولة واحدة أو تحقيق فوز لحظي، بل تحول التركيز نحو مشروع وطني شامل عنوانه "كأس العالم 2026". زيادة حصة آسيا من المقاعد إلى 8.5 مقعد أعطى حافزاً هائلاً للعمل الجدي، حيث وفر الاتحاد معسكرات تدريبية على مستوى عالٍ ومباريات ودية نوعية مع مدارس كروية مختلفة، بهدف تجهيز الفريق ليكون منافساً حقيقياً على بطاقة التأهل، وليس مجرد ضيف شرف في التصفيات.
المحور الرابع: التحديات والفجوات.. الوجه الآخر للعملة
رغم الصورة المشرقة، لا يمكن إغفال التحديات الهيكلية التي تزيد من قيمة ما يتحقق حالياً، وأبرزها الفجوة الكبيرة بين المنتخب والدوري المحلي. يتطور المنتخب الوطني بشكل لافت بفضل لاعبيه المحترفين، بينما لا يزال الدوري الأردني يعاني من أزمات مالية خانقة وضعف في البنية التحتية والملاعب. هذا الواقع جعل المنتخب يعتمد بشكل شبه كلي على المحترفين في الخارج، في حين يجد اللاعب المحلي صعوبة كبيرة في مجاراة النسق العالي للمباريات الدولية، مما يخلق تحدياً مستمراً للجهاز الفني في عملية الدمج بين الفئتين.
تنعكس هذه الفجوة بشكل واضح على دكة البدلاء، حيث يظهر الفارق الفني والبدني بين اللاعب الأساسي (المحترف غالباً) واللاعب البديل (المحلي). هذا التباين يشكل خطراً حقيقياً في البطولات الطويلة المجمعة أو في حال تعرض الركائز الأساسية للإصابات أو الإيقافات، مما يضع ضغطاً هائلاً على المجموعة الأساسية ويستوجب حلاً جذراً لتطوير المنظومة المحلية لضمان استدامة الرافد البشري للمنتخب.
هل هي طفرة أم نهضة مستدامة؟
في الختام، يمكن القول بثقة أن ما يشهده المنتخب الأردني هو نهضة كروية حقيقية ومستدامة وليست مجرد طفرة عابرة. الدلائل تشير إلى وجود مشروع تكتيكي واضح المعالم وليس مجرد اجتهادات فردية، مدعوماً بـ "عمود فقري" من لاعبين محترفين صغار السن (تتراوح أعمارهم بين 24 و27 عاماً)، مما يضمن القدرة على المنافسة لسنوات قادمة. الأهم من ذلك هو الثقة المكتسبة التي كسرت الحواجز النفسية للأبد. المنتخب الأردني اليوم يقدم درساً بليغاً في كيف يمكن للدول ذات الموارد المحدودة أن تنافس عمالقة اللعبة من خلال التنظيم الصارم، الاستثمار الذكي في المواهب الفردية عبر بوابة الاحتراف، والواقعية التكتيكية التي تعرف كيف تطوع الإمكانيات لتحقيق الإعجاز.











































