خلال مؤتمر الإعلام المجتمعي في العصر الرقمي، أعلن الصحفي داود كتّاب تقاعده. الإعلان كان بسيطًا، لكنه لمس عندي شيء عميق. ربما لأن اسمي ظل مرتبطًا باسمه طوال سنوات طويلة.
ارتباط ربما سبب متاعب أحيانا، اثنان من الصحفيين يكتبان بسقف مهني عالٍ، ومسار طويل من العمل والجهد والتجارب، وفيه محطات شكلتني كإنسان قبل أن تشكّلني كصحفي. أنا دائمًا أقول: داود ليس مجرد مدير… داود معلم، وأب روحي.
أكتب اليوم عن داود، شيئا طالما أردت أن أكتبه، لكن شعرت أن لحظة كتابتي عنه أفضل أن تكون مع إعلان تقاعده، كي لا أبدو محابيًا أو أجامله وهو على رأس عمله.
كانت أول خطوة حقيقية في مسيرتي حين كنت أعمل في مطعم صغير للحمص عام 2004، حين استوقفتني إعلان في الصحيفة: مطلوب صحفيين لإذاعة تبث عبر الإنترنت: عمان نت. في زمن لم تكن فيه إذاعات FM موجودة، ولم يكن الإنترنت ناضجًا، كانت فكرة إذاعة إلكترونية شبه مستحيلة. ومع ذلك، شعرت أنها فرصة للعمل في تخصصي.
كنت قد تخرجت من جامعة اليرموك 2002 ومحبطا لم اجد عملا في تخصص الصحافة، ذهبت إلى المقابلة، وتوقعت لقاء مدير مؤسسة، لكنني فوجئت بشخصية مختلفة تمامًا. داود لم يسأل عن سنوات خبرتي، بل عن فضولي، عن القصص التي أراها يوميًا في الشارع، عن الناس الذين يلتقيهم المرء ولا ينتبه إليهم أحد. منذ اللحظة الأولى شعرت أنه يفتح أمامي بابًا جديدًا لم أكن أعرف أنه موجود.
أتيت حينها من بيئة مغلقة، من مخيم الحصن للاجئين الفلسطينيين في اربد، حيث كانت الأفكار الموروثة والمعتقدات الاجتماعية محددة بحدود صارمة، والاحتياطات تجاه الآخر جزء من الحياة اليومية.
كل شيء كان يُقاس وفق عادات وقيود تقليدية، والانفتاح على الاختلاف يُنظر إليه أحيانًا بشك وحذر. العمل في عمان نت كان تجربة مغايرة تمامًا. هناك، وجدت نفسي في بيئة تحتضن التنوع، تشجع على النقد، وتقدّر الاختلاف، حيث لا يُقاس الإنسان بخلفيته، بل برؤيته وفضوله والتزامه بالقيم المهنية.
سنواتي في عمان نت أعادت تشكيل أفكاري، فتعلّمت كيف أن أفكار المجتمع ليست قوالب ثابتة بناء على الجندر والمكان والأصول، وكيف أن الانفتاح على الآخر ليس رفاهية بل ضرورة لفهم العالم، وللعيش ضمن مجتمع متحرّر قادر على التجديد والتغيير.
عمان نت لم تكن مجرد مؤسسة، بل كانت بيتًا. لم نكن موظفين، بل أسرة حقيقية. أجواء الثقة، التضامن، والمساحة التي تحتضن الإبداع والخطأ معًا، شكلت بيئة نادرة جدًا. داود خلق هذا الجو بأسلوبه الإنساني، بقربه الأبوي، وبقدرته على منح كل واحد منا شعورًا بالأهمية والمسؤولية.
أهم الدروس التي تعلمتها من داود هي كسر مركزية القرار. لم يكن يومًا المدير الذي يمسك بكل الخيوط، بل كان يمنح الصلاحيات، ويترك مساحة للإبداع، ويعامل كل صحفي كشريك في صناعة القرار. فصل بوضوح بين الإدارة والتحرير، وأكد دائمًا أن الصحافة تفقد قيمتها إذا فقدت استقلاليتها.
كما تميز داود بإيمانه الحقيقي بالمساواة وتمكين المرأة. لم تكن هذه شعارات ترفع في المؤتمرات، بل كانت ممارسة يومية واضحة في عمان نت وراديو البلد. المساواة في المهام، الترقية، والفرص، كانت قاعدة ثابتة لا نقاش فيها. بالنسبة لي، الذي أتيت من بيئة مغلقة اجتماعيًا، شكّلت هذه التجربة تحولًا في رؤيتي للعالم، وفتحت أمامي منظورًا أكثر انفتاحًا وتقبلًا للآخر.
كان داود أيضًا مؤمنًا بأن الإعلام مسؤولية الجيل الجديد. فتح أبواب عمان نت للطلاب والخريجين، ومنحهم فرصًا حقيقية ليس فقط كمتدربين، بل كشركاء محتملين في صناعة إعلام مسؤول. كما آمن بالمواطن الصحفي، وعلّم أن الصورة والخبر مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون مهارة تقنية، وأن الالتزام بالمهنة ليس خيارًا، بل واجبًا.
أكبر قيمة زرعها داود فينا كانت الثقة. الثقة مع الجمهور، مع النفس، ومع المهنة نفسها. كنا نعلم أن أي تضارب مصالح أو تقصير في الأداء قد يهدم هذه الثقة، وأن المحافظة عليها أهم من أي إغراء أو ضغط، لذا كان الجمهور إذا ما اراد أن يحقق من صدق الخبر يزور موقع عمان.. هل نشر الخبر أم لا!.
واليوم، مع إعلان تقاعده الإداري، أعلم أن الصحفي الحقيقي لا يتقاعد. قد يترك المكتب، لكنه لا يترك الرسالة. إرث داود سيبقى حيًا في كل زاوية من عمان نت وراديو البلد، وفي كل جيل جديد تربى على قيمه، استقلاليته، وأخلاقياته.
خبرته وارثه طويل، وُلد داود كتّاب في بيت لحم عام 1955، ونشأ في القدس. حصل على بكالوريوس إدارة الأعمال من Messiah College. أسس وأدار معهد الإعلام الحديث في جامعة القدس، وأطلق تلفزيون القدس التعليمي، وأسس أول إذاعة إنترنت عربية عام 1999، وشبكة الإنترنت للإعلام العربي AMIN، إضافة إلى معهد فيلم القدس. كتب في جريدة القدس اليومية، وأجرى مقابلات مع قادة دوليين، وعمل محررًا ومراسلًا في مؤسسات فلسطينية وأردنية.
إرث داود كتّاب ليس في المنصب الذي شغله، ولا في المؤسسة التي أسسها، بل في جيل كامل من الصحفيين تربّى على الحرية، على المسؤولية، وعلى أن الصحافة خدمة عامة قبل أن تكون مهنة. استراحة محارب هذه ليست نهاية، بل محطة جديدة لمسيرة رجل جعل من الكلمة، الحقيقة، والقيم المهنية درعًا لا يُكسر.












































