يكشف تقرير ديوان المحاسبة الأخير عن سلسلة من المخالفات والتجاوزات التي تمس سلامة الإنفاق العام وتضع مبدأ الشفافية على المحك.
فالتقرير الذي يرصد أداء الوزارات والمؤسسات الحكومية للعام الماضي، أظهر حجما من الهدر وسوء الإدارة يمتد من استئجار طائرات بملايين الدولارات، إلى صرف رواتب لأشخاص متوفين، وشراء أفلام موجودة أصلا في الأرشيف، مرورا بزيادة غير مبررة في إيجارات مبان حكومية، وصرف مكافآت خارج الأطر القانونية.
ففي التفاصيل، يشير التقرير الذي تم نشر بعض من بنوده عبر وسائل شبكات التواصل الاجتماعي، إلى أن الملكية الأردنية استأجرت طائرة بمبلغ 92.5 مليون دولار، بينما صرفت مديرية التقاعد المدني والعسكري رواتب تقاعدية لأشخاص فارقوا الحياة.
كما اشترى التلفزيون الأردني 33 فيلما عربيا بمبلغ 42 ألف دينار رغم وجودها في أرشيفه، في حين صرف لرئيس بلدية عين الباشا الجديدة بدل هاتف بقيمة 1230 دينارا، إضافة إلى 24,390 دينارا كمكافآت لموظفين خلافا للتعليمات.
أما وزارة المالية، فقد رفعت قيمة إيجارات مستودعات خاصة بأحد المتعاملين معها من 1600 دينار إلى 19,324 دينارا رغم وجود توصية باستخدام مبنى مملوك للدولة، في حين أن بلدية الجيزة أنفقت أكثر من مليون دينار على شراء أشجار زينة لدورة عام 2018.
كما اختفى 26 ألف شريط من المقويات الجنسية من أحد مستودعات شركة المناطق الحرة والتنموية، ودفعت وزارة الخارجية 162 ألف دينار إيجارًا سنويًا لمبنى السفارة الأردنية في ليبيا رغم عدم استخدامه.
ولم تتوقف التجاوزات عند هذا الحد، إذ رصد التقرير مخالفات مالية في وزارة الخارجية خلال الأعوام 2013-2015، شملت إقامة حفلات استقبال بمبالغ تجاوزت آلاف الدنانير من دون موافقة رئاسة الوزراء، وشراء هدايا دبلوماسية من صواني الفضة بمبالغ تفوق الألف دينار، إضافة إلى فواتير اتصالات بلغت خمسة آلاف دينار رغم وجود خطوط اتصال مؤمنة مسبقا.
كما يشير التقرير إلى أن سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة صرفت مليوني دينار العام الماضي لموظفين لا يعملون فيها فعليا، وأن كلفة زينة رمضان بلغت أكثر من 70 ألف دينار، إلى جانب فواتير تضمنت مشروبات كحولية.
وفي المقابل، استأجرت هيئة الاستثمار مبنى من أربعة طوابق بمبلغ 232 ألف دينار سنويا ليشغله 12 موظفا فقط.
يرى الكاتب وائل منسي إن تقرير ديوان المحاسبة الأخير كشف عن سلسلة من المخالفات والتجاوزات المالية التي تعكس تفاوتا واضحا في مستوى الانضباط المالي والإداري داخل عدد من المؤسسات الرسمية، فبعض هذه المخالفات جسيم ويمس سلامة الإنفاق العام بشكل مباشر، بينما يعود بعضها الآخر إلى ضعف الخبرة أو الجهل بالإجراءات الإدارية، في حين يبدو أن جزءا منها ناتج عن سوء نية واستغلال متعمد للثغرات التنظيمية.
ويؤكد منسي أن هذه التجاوزات، على اختلاف أسبابها، تتطلب ردا واضحا ومقنعا من الجهات الحكومية المعنية، ومعالجة جذرية لا تقتصر على إطلاق التصريحات أو الوعود، بل تمتد إلى إصلاح منظومة الرقابة نفسها، بما يضمن فاعليتها واستقلالها.
ويشير إلى أن من غير المقبول أن تصرف مبالغ مالية كبيرة على خدمات أو أصول لا تستخدم فعليا، أو أن تسجل نفقات على مشاريع وهمية أو مكررة، أو تمنح مكافآت وحوافز خارج الأطر القانونية، ويرى أن الأسوأ من ذلك، بحسب قوله، أن تكتشف هذه المخالفات بعد سنوات من وقوعها، مما يعكس غياب نظام إنذار مبكر ورقابة مالية آنية يمكنها رصد التجاوزات في حينها قبل أن تتفاقم.
يعتبر أن ما تكشفه هذه الظواهر لا يقتصر على خلل في الإجراءات أو ضعف في المتابعة، بل يدل على ضعف أعمق في الحوكمة المالية والمساءلة الوقائية، وهو ما يؤدي إلى استنزاف المال العام في وقت تعاني فيه الخزينة من ضغوط اقتصادية كبيرة، ويطلب فيه من المواطنين مزيد من الصبر والتقشف.
ويشدد على أن تكرار مثل هذه الأخطاء يستدعي تطوير أدوات الرقابة لتكون أكثر ذكاءً واستباقية، وذلك عبر توظيف التكنولوجيا المالية (FinTech) والذكاء الاصطناعي (AI) لتحليل البيانات المالية الحكومية بشكل لحظي، بما يتيح اكتشاف أنماط الإنفاق غير المنطقي أو المشبوه فور حدوثها، بدلا من اكتشافها بعد فوات الأوان، فالإصلاح المالي الحقيقي، كما يقول، لا يتحقق فقط من خلال تصويب الأخطاء بعد وقوعها، بل في القدرة على منعها قبل حدوثها.
من جهة اخرى، يؤكد عضو هيئة النزاهة ومكافحة الفساد السابق والخبير القانوني الدكتور طلال الشرفات أن الهدف الدائم يجب أن يكون الوصول بنسبة المخالفات إلى أدنى حد ممكن، بل إلى درجة الصفر، أي تحقيق التزام كامل بتطبيق القانون، وترسيخ مبادئ العدالة والحوكمة وسيادة القانون في كل مؤسسات الدولة.
ويشير إلى أن ما ورد في تقرير ديوان المحاسبة يعكس وجود مخالفات يمكن أن نجد مثيلاتها في العديد من دول العالم، إلا أن الهدف الأساس هو العمل الجاد للحد منها كليا، وتفعيل مبادئ الشفافية والمساءلة، وضمان عدم الاعتداء على المال العام تحت أي ظرف.
ويضيف الشرفات أن بعض ما ورد في التقرير من تجاوزات، مثل استئجار طائرات بملايين الدولارات، أو صرف رواتب لأشخاص متوفين، أو وجود هدر في المشتريات والعقود الحكومية، تطرح تساؤلات جدية حول مدى فعالية منظومتي الرقابة والمساءلة في حماية المال العام.
ويؤكد أن مثل هذه التجاوزات لا يمكن اعتبارها حالات فردية، بل تعبر عن حالة خلل متراكمة في النظامين الإداري والمالي. ومع ذلك، فإن هذا الخلل قابل للمعالجة إذا توفرت الإرادة الجادة والإجراءات السريعة، مشيرا إلى أن قضية استئجار الطائرات، على سبيل المثال، ليست جديدة، لكنها تعكس الحاجة الدائمة إلى المعالجة الفورية لأي خلل يكتشف في الوقت المناسب.
ويبين الشرفات أن المعالجة في مثل هذه الحالات عادة ما تبدأ من قبل الحكومة قبل إحالة الملفات إلى القضاء، حيث يتم الضغط على المؤسسات التي ارتكبت مخالفات قانونية لتصويب أوضاعها، وغالبا ما تتم معالجة نصف المخالفات أو أكثر من ذلك قبل الوصول إلى مرحلة التقاضي. أما في حال تعذر التصويب، فإن الملفات تحال إلى القضاء وفقا لأحكام قانون هيئة النزاهة ومكافحة الفساد وقانون العقوبات، لضمان المساءلة القانونية الكاملة.
وفي ما يتعلق بآلية الحكومة لمتابعة هذه المخالفات وضمان تصويبها، يوضح الشرفات أن هناك إجراءات متدرجة تبدأ بالمراجعة والتصويب الداخلي، وإذا لم يتم الالتزام بتطبيق القوانين أو معالجة المخالفة، يتم تحويل المعنيين إلى التحقيق المهني لدى هيئة النزاهة ومكافحة الفساد، التي تتولى بدورها إحالة الملفات إلى النيابة العامة، ليصار إلى تطبيق أحكام القانون بحق المخالفين.
أما بشأن تأثير مثل هذه التقارير على الثقة العامة بالمؤسسات الرسمية، فيرى الشرفات أن هذه القضايا تمس بالفعل مستوى الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، مؤكدًا أن الإصلاح الإداري يمكن أن يسهم في معالجة جزء من المشكلة، لكنه لا يكفي وحده ما لم يرافقه التزام جاد بتطبيق القانون، فحتى وإن بدت بعض المخالفات بسيطة، فإنها تعبر عن حالة من هدر المال العام، وقد تصل في بعض الأحيان إلى حد الاعتداء على حرمته، وهو ما ينعكس سلبا على الثقة العامة ويضع سمعة المؤسسات على المحك.












































