تجليات الموت الفلسطيني

كانت صرخة "أبو الخيزران " ــ لماذا لم تدقوا جدران الخزان ــ في رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" ــ عنوانا مأساويا تكشف عن وجه واحد فقط من وجوه مأساة الفلسطيني، وإحدى صور تجليات موته المتعددة والمتشابكة والممتدة منذ وقعت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني ثم الاحتلال الصهيوني عبر مأساة استمرت مئة عام ولا تزال.
كان الموت الفلسطيني بالنسبة لجنود مملكة الإرهاب البريطاني عنوانا مفتوحا ومباحا لقتل الضحية، فلم تكن حياة الفلسطيني بالنسبة للارهاب البريطاني تساوي شيئا، لكن الفلسطيني لم يأبه للإجرام البريطاني وظل يقاومه ويتصدى له بالرغم من عدم تكافؤ القوة من عتاد وتدريب، ولم يكن أمام الفلسطيني غير اعتماده على ثقافة الجهاد والاستشهاد، تلك الثقافة العقدية التي جعلت من الفلسطيني شهيدا واستشهاديا معجلا او مؤجلا.
من هنا تنامى وعي الفلسطيني مبكرا على هويته ووطنيته، وأصبحت حياته بكليتها رهينة معادلة قاسية فإما الحياة بحرية وإما الموت بتجلياته في الاستشهاد والشهادة، وهذا ما جعل من الفلسطيني مشروعا دائما ومفتوحا لكل أوجه الموت، والقتل والشهادة والاستشهاد، وفي اسوأ الحالات النفي والطرد والإبعاد من وطنه، وهذا أمر خلق بالنتيجة للفلسطيني مأساة جديدة جعلت منه طريدا من وطنه ومن مجتمعه، ولاجئا او نازحا ناجيا بجسده لكنها نجاة  بلا روح.
لقد قامت سياسة واستراتيجية الوجود الاحتلالي الاسرائيلي على عقيدة الأمن ولن يتأتى ذلك إلا بقتل الفلسطيني أو نفيه، وبمعنى آخر سلبه حياته ووجوده، وأن لا وجود وأمن للإحتلال إلا بالخلاص من الفلسطيني، مما يعني وبالضرورة عدم ايمان الصهيوني داخل عقيدته الصهيونية باستحالة الحياة لأي يهودي بوجود الفلسطيني حيا أو حرا، وهذا ما أكد عليه الارهابي يواف جالانت وغبره من ارهابيي الاحتلال بان هزبمة اسرائيل بعد 7 اكتوبر سيعني ان لا مكان لنا في الشرق الاوسط، وهذا كلام يستعيد قاعدة اساسية من قواعد المواجهة والنضال الفلسطيني عبر 75 سنة من الاحتلال بان الصراع الفلسطيني الاسرائلي هو صراع وجود وليس صراع حدود.
لقد ظلت تجليات قتل الفلسطيني متواصلة منذ ما قبل سنة 1948 ، فكان موت الفلسطيني وفتله وى يزال هدفا اسرائيليا ،وان لم يستطع فان نفيه الأبدي ومحو أثره لا بقل أهمبة عن  فتله وموته.
بعد نكبة 1948 اصبح من الصعب وضع مسطرة ثابتة لدراسة المجتمع الفلسطيني المشتت واللاجيء الذي أصبحت هويته الفلسطينية وكيانيته وحتى موروثه الثقافي ــ والاجتماعي عرضة لموجات متواصلة من الإلغاء بالتذويب في مجتمعات الملاذات الجديدة، أو بالتكيف والإحتواء، ومن هنا اصبح الفلسطيني اللاجيء أكثر عرضة للالغاء من فلسطينيي الداخل الذي ظل الأكثر تمسكا بهويته وبكيانيته، في مواجهة سياسة الاحتلال القائمة على الاعتقال او النفي او القتل لكل فلسطيني.
ظل فلسطينيي الخارج يعبرون هن هويتهم ووجودهم كل بطريقته الخاصة ووفقا لظروف تواجده في بلدان الملاذات الجديدة التي انتهجت تلك الملاذات سياسات الالغاء والافصاء للفلسطينيين ــ باستثناءات محدودة ــ بينما تسامحت معهم في الاستمرار بالعيش والحياة ضمن قاعدة واحدة فقط وهي ممنوع عليه الاقتراب من العمل السياسي الا بالقدر الذي تسمح به مصالح الدولة المضيفة وسياسات الملاذات الجديدة. 
فلسفات الموت والفقد والنفي والقتل والشهادة والاستشهاد والأسر والاغتيال والابادة الجماعية كلها عناوين مفتوحة امام الفلسطيني الذي يتعايش مع كل تجليات الموت ـ الدم ــ الفقد ــ يوميا بحيث اصبح الموت بكل تجلياته الرفيق اليومي الدائم لكل فلسطيني مرشح ليكون الضحية التالية في ممارسات الاجرام الصهيوني بحق الفلسطينيين.
اصبح المحتل الصهيوني باجرامه الوكيل الأممي لقتل الفلسطيني، وأصبحت مهمة إدارة الموت الفلسطيني مهمة تتولاها قوى الاجرام الصهيونية للقضاء على الوجود الفلسطيني "الحياة"، دون النظر للقانون الدولي الانساني ولمنظومات حقوق الانسان التي تبين زيفها وخداعها حين يكون الأمر مرتبطا فقط بحياة الفلسطيني....
أصبحت المجزرة جزءا من ثقافة الفلسطيني ووجوده، ومن الواضح ان الفلسطيني الذي يتعرض للابادة الجماعية منذ ما قبل 1948 وحتى اليوم في العدوان على غزة إنما يستهدف تكريس سياسة الاحتلال التي تستهدف نفي الفلسطيني بالقتل وبالدم، وكما قامت سياسته على إخراج ونفي الفلسطيني من القرن العشرين يريد إخراجه ايضا ونفيه من القرن الحادي والعشرين، وهذا ما حول الفلسطيني منذ بواكير القرن المنصرم لاعتبار مقاومته للمحتل البريطاني ثم المحتل الصهيوني الى مواجهة مفتوحة بالدم دفاعا عن حياته ووجوده، وأصبحت قاعدته الحياتية إما أن أكون حيا في وطني أو أكون قتيلا في سبيل تحقيق وجودي وكيانيتي.
في مشاهد المجازر والمذابح والإبادة الجماعية في غزة تتحقق تجليات الموت الفلسطيني بكل أبعادها الحياتية والنضالية، ولم ارى أصدق في تشخيص حالة الفلسطيني مما قاله طفل غزي لم يتعدى عمره العشر سنوات وهو يجيب على سؤال لصحفي سأله عن مستقبله وماذا يتمنى ان يصبح عليه في المستقبل؟فرد الطفل عليه ضاحكا"أي مستقبل، إحنا ما النا مستقبل، نحن نولد لنموت ونقتل ".

أضف تعليقك