بعد نحو 30 عاما من التوقف… خدمة العلم تعود للشباب الأردني بصيغة جديدة

الرابط المختصر

بعد نحو 30 عاما من التوقف، تعيد الحكومة إطلاق برنامج خدمة العلم، هذه المرة في ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية مختلفة، وسط تأكيدات لخبراء أن هذه العودة تأتي في توقيت حساس يحمل بعدا سياسيا، ويعزز الردع الوطني، بالإضافة إلى دورها في صقل شخصية الشباب، وغرس قيم الانضباط والعمل الجماعي، وربطهم بهويتهم الوطنية في ظل التغيرات الاجتماعية والثقافية التي يشهدها الأردن اليوم.

خدمة العلم ليست جديدة على الشباب، فقد تأسست عام 1976، وكانت الخدمة العسكرية الإلزامية مستمرة حتى عام 1992، بمدة تتراوح بين عام ونصف إلى عامين، لتلبية احتياجات الجيش من الكوادر البشرية وتعزيز الانضباط والمساهمة في مشاريع التنمية الوطنية، وتوقفت الخدمة لاحقا مع تحول الجيش إلى نظام التطوع، مما أتاح فرصة لإعادة تصميم البرنامج بما يتناسب مع الظروف الحالية.

الحكومة وضعت صيغة حديثة ومتدرجة للبرنامج، تجمع بين التدريب العسكري والتأهيل المعرفي، بهدف إعداد جيل واثق من قدراته وملتزم بقيم وطنه.

وأعلن وزير الاتصال الحكومي الناطق باسم الحكومة، محمد المومني، ومدير الإعلام العسكري في القوات المسلحة الأردنية، العميد مصطفى الحياري، تفاصيل البرنامج الجديد، الذي يأتي تنفيذا لتوجيهات ولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله الثاني، وفي إطار رؤية وطنية شاملة للاستثمار في طاقات الشباب الأردني، بهدف إعداد جيل من الشباب المنضبط والواعي والقادر على الإسهام الفاعل في مسيرة التنمية وصون مكتسبات الوطن.

ويشمل البرنامج الجديد مسارين متكاملين، المسار العسكري الذي يشكل الجزء الأكبر من التدريب، والمسار المعرفي النظري الذي يقدمه مختصون مدنيون في المجالات المعرفية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، لضمان التوازن بين التدريب العسكري والتأهيل المعرفي.

ويستهدف البرنامج نحو 6000 شاب أردني مواليد 2007، موزعين على ثلاث دفعات، مع مراعاة التوزيع السكاني بين المحافظات، وسيتم اختيار المشاركين إلكترونيًا بطريقة علمية محايدة. كما تم وضع آليات مرنة للتأجيل أو الإعفاء في حالات محددة، مع فرض عقوبات رادعة للتخلف عن الالتحاق بالخدمة.

 

البعد السياسي للعودة

يؤكد الخبير العسكري العقيد المتقاعد الدكتور محمد المقابلة في حديثه لعمان نت أن الإعلان عن إعادة تفعيل خدمة العلم جاء في توقيت يحمل بعدا سياسيا مهما، معتبرا أنه في الدرجة الأولى يندرج في إطار تعزيز مفهوم الردع السياسي تجاه ما صدر مؤخرا عن حكومة الاحتلال من تصريحات وصفت بالاستفزازية والوقحة.

ويقول إن الأردنيين كانوا ينتظرون ردا رسميا قويا من الحكومة يعادل أو يتجاوز ما صرح به رئيس وزراء الاحتلال، إلا أن تصريح ولي العهد مثل في هذه اللحظة ردا سياسيا رادعا، حافظ على هيبة الدولة ورسخ صورة الردع الأردني، كما منح الشارع الأردني شعورا بالارتياح والثقة.

ويرى المقابلة أن الإعلان عن خدمة العلم في هذا التوقيت يفهم كرسالة مباشرة للكيان الصهيوني، تؤكد أن الأردنيين لا يخضعون للتهديدات، سواء كانت سياسية أو دبلوماسية أو حتى عسكرية.

 

وإلى جانب البعد الأمني والسياسي، يرى أستاذ علم الاجتماع ومدير مركز الثريا للدراسات الدكتور محمد الجرابيع أن قرار عودة خدمة العلم يمثل خطوة جدلية لكنها مهمة، جاءت بعد سنوات من النقاشات والمطالبات بإعادة طرحها بصيغة جديدة تتناسب مع التغيرات.

ويؤكد الجرابيع أن فهم القرار يتطلب النظر إلى السياقات الداخلية والخارجية معا، مشيرا إلى أن العديد من المؤسسات والجهات المجتمعية والتربوية والإعلامية طالبت بضرورة تبني برنامج موجه للشباب.

كما أن المجتمع الأردني، بصفته مجتمعا فتيا ترتفع فيه نسبة الشباب، وبوجود توسع كبير في فرص التعليم وأنماط الحياة الحديثة، يحتاج إلى برنامج منظم يساهم في إعادة التوازن لقيم التنشئة والتربية، ويمنح الشباب فرصة للانضباط والاندماج الإيجابي في خدمة وطنهم، بحسب الجرابيع.

 

شروط البرنامج وآليات التنفيذ

البرنامج جاء بصياغة جديدة ، توازن بين الانضباط العسكري والمرونة في التنفيذ لتناسب أوضاع الشباب، بحسب ما أعلنت عنه الحكومة، حيث سيحسب للمتدربين 12 ساعة معتمدة في الجامعات، مع إمكانية التأجيل أو الإعفاء في حالات محددة مثل، الابن الوحيد، عدم اللياقة الصحية، الإقامة في الخارج، أو الطلبة على مقاعد التوجيهي، وتصل عقوبة التخلف عن الخدمة إلى السجن من ثلاثة أشهر إلى سنة.

ويرى العقيد المتقاعد المقابلة أن هيكلية التنفيذ قد تختلف هذه المرة لتكون أكثر كفاءة ومرونة، وهو مما يعكس إعادة تفكير الحكومة في البرنامج وتطويره بما يحقق الغاية الاستراتيجية منه، وهي ربط الشباب بتراب وطنهم وتعزيز وعيهم الوطني.

مشددا على ضرورة وجود لجنة تقييم خاصة للدفعة الأولى، تعمل بمهنية وشفافية بعيدا عن المجاملة، بحيث يتم رصد أي ملاحظات أو أخطاء في التنفيذ لمعالجتها فوراً، معتبراً أن الاعتراف بنقاط النقص أو الخلل ليس عيبا، بل أن العيب يكمن في تجاهلها وعدم تصحيحها.

 

تأثير خدمة العلم على شخصية الشباب

التجربة العسكرية تمنح الشباب خبرات فريدة، تؤثر بشكل مباشر في تكوين شخصيتهم وقدرتهم على مواجهة التحديات، بحسب المقابلة الذي يؤكد أن الاحتكاك المباشر مع الجيش العربي يترك أثرا عميقا ودائما في شخصية الشباب. 

فالتجربة العسكرية، كما يوضح، تقوم على الانضباط والالتزام وصقل الشخصية، وهي قيم تبقى جزءا من تكوين الفرد حتى بعد سنوات طويلة من انتهاء خدمته. ويرى أن ما يميز المدرسة العسكرية هو اعتمادها على أسس تدريبية وعلمية واضحة، قادرة على ترسيخ بصمتها في شخصية الشاب خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً.

ويشير المقابلة إلى أن المرحلة التأسيسية، والتي غالبا ما تمتد ثلاثة أشهر، كفيلة بأن تغير الكثير في بنية الشاب النفسية والجسدية، حيث يخوض خلالها تدريبات وتجارب صعبة تفرض عليه التكيف مع واقع جديد، والاعتماد على نفسه في مواجهة التحديات. 

كما تمنحه هذه التجربة خبرات لا يمكن الحصول عليها في الحياة المدنية، أبرزها القدرة على اتخاذ القرار، وتنمية مهارات العمل الجماعي بروح الفريق، والشعور بالمسؤولية تجاه زملائه ووطنه، بحسب المقابلة.

 

تغير الأنماط والعادات الاجتماعية

في ظل التحولات الاجتماعية والتكنولوجية، أصبح من الضروري وجود برامج عملية لتعزيز الانتماء والهوية الوطنية للشباب، بحسب أستاذ علم الاجتماع الدكتور محمد الجرابيع الذي يشير إلى أن التوسع في أنماط الحياة الحديثة، والعيش في عصر المجتمعات الافتراضية والقيم الرقمية، جعل كثيرا من العادات والسلوكيات مجرد مظاهر بلا جذور حقيقية على أرض الواقع، موضحا أن هذه التحولات أفرزت تحديات جديدة تتطلب برامج عملية تعزز الانتماء والهوية الوطنية، وتعيد للشباب توازنهم في مواجهة عالم مختلف كليا.

ويضيف الجرابيع أن الأردن مجتمع فتي يعاني نسبة كبيرة من الشباب فيه من البطالة أو الفراغ، الأمر الذي يجعل من خدمة العلم فرصة لمعالجة مشكلات اجتماعية متراكمة، ليس فقط في جانب البطالة، بل أيضا في غرس قيم الانضباط والالتزام والإصرار، وهي القيم التي يفتقدها بعض الشباب في حياتهم اليومية.

ومن الناحية النفسية والاجتماعية، يوضح الجرابيع أن التجربة العسكرية قادرة على إحداث أثر مباشر في شخصية الشباب وسلوكهم، حيث تسهم في تنمية روح العمل الجماعي، وتحمل المسؤولية، وتعزيز الانضباط، وهو ما يفسر حالة التأييد الشعبي الواسع لعودة خدمة العلم، مشيرا  إلى أن هذا القرار لم يأت فجأة، بل جاء بعد مطالبات متكررة على مدى أكثر من 15 عاما بضرورة إعادة الخدمة، باعتبارها وسيلة لإنتاج جيل أكثر التزاما وانضباطا.