في السنوات الأخيرة، لم تعد قضايا التغير المناخي مجرد أرقام أو تقارير علمية باردة. بالنسبة لي، كصحفي قضى سنوات يتابع أثر المناخ على حياة الناس، تحوّل الأمر إلى قصص إنسانية أعرف أصحابها جيدًا.
في شمال الأردن، كنت قد وثّقت في تقارير صحفية كيف ابتلع الجفاف مواسم الحصاد، وكيف تحولت سهول الخضار والقمح إلى أراضٍ مُجهدة، لا تعطي ثمارها كما كانت تفعل لأجيال.
في تلك القرى، خسرت الزراعة أجمل ما تملك: شبابها. آلاف الشباب الذين كانوا عماد الحقول تركوا الأرض حين باتت عاجزة عن إعالتهم. بعضهم رمى معوله الأخير فوق كومة من التراب، واتخذ القرار الأصعب: الهجرة. كثير منهم اتجه إلى طرق غير شرعية نحو الولايات المتحدة وأوروبا، في رحلة محفوفة بالغموض والمخاطر، بحثًا عن فرصة وكرامة لم تمنحها لهم أرضهم العطشى.
هذه الظاهرة لم تكن معزولة. في مقالات ذات صلة برزت صورة أشمل للهجرة الأردنية الجديدة: شباب يهربون من ضيق الأفق الاقتصادي، وآخرون ينتهي بهم المطاف يقاتلون في روسيا بعد أن وجدوا أنفسهم محاصرين بالفقر والبطالة. كلا المسارين — سواء عبر مزارع الشمال الجافة أو نحو ساحات القتال — يعكس هشاشة المنظومة التي تدفع شباب المنطقة إلى خيارات قصوى حين تغيب التنمية وفرص العمل.
التغير المناخي ليس مجرد خلفية للأحداث؛ إنه محرك أساسي يغيّر أنماط العيش، ويعيد رسم خرائط الهجرة في جنوب المتوسط.
حين تفقد الأرض خصوبتها، وتتناقص المياه، وتتراجع القدرة على الإنتاج، يصبح الشباب أول ضحايا هذه الدائرة. الهجرة غير الشرعية ليست خيارًا رومانسيًا، بل نتيجة طبيعية لفشل بيئة اقتصادية ومناخية لم تعد قادرة على الاحتفاظ بأغلى ما لديها.
من هنا، يصبح الربط بين المناخ والهجرة خطوة ضرورية لأي حديث جدي عن المستقبل، خاصة في دول جنوب البحر الأبيض المتوسط—ومن بينها الأردن، تونس، المغرب، الجزائر، مصر، وليبيا.
يوم الخميس سأشارك في حفل إعلان ميثاق من أجل البحر الأبيض المتوسط في برشلونة؛ حدث يُعيد تعريف آفاق التعاون بين ضفّتي المتوسط على أساس التحديات والطموحات المشتركة.
الميثاق عبارة إطار جديد لبناء فضاء متوسطي أكثر ترابطًا وازدهارًا ومرونة وأمنًا. وهو يقوم على مبادئ الملكية المشتركة، والإبداع المشترك، والمسؤولية المشتركة، مع التركيز على مبادرات ملموسة تعود بفائدة حقيقية على الناس والاقتصادات.
أبرز ما يلفت في هذا الميثاق هو تركيزه الكبير على الشباب و التغير المناخي، وهما العنصران الأكثر ارتباطًا بملف الهجرة غير الشرعية. أي إصلاح حقيقي في المنطقة لن يكتمل دون معالجة جذور الهجرة: المناخ، الفرص، الأمن الغذائي، والتنمية الاقتصادية. الدول المتأثرة في التغير المناخي هي دول غير ملوثة للمناخ لكنها تدفع الضريبة الكبيرة.
ورغم أن دول جنوب المتوسط تتحمّل العبء الأكبر من هذه الأزمات، إلا أنها ليست المسؤولة تاريخيًا عن التلوث الذي تسبب في التغير المناخي. هنا يصبح مفهوم العدالة المناخية ضروريًا: لماذا تدفع المجتمعات الأقل تلويثًا ثمن أخطاء اقتصادات صناعية عملاقة؟ ولماذا يُطلب من دول الجنوب أن تعالج تبعات أزمة ليست من صنعها؟
من هذا المنطلق، يصبح وضع الشباب والمناخ في قلب السياسات العامة لدول جنوب المتوسط واجبًا لا رفاهية. فهما معًا يمثلان قلب المشكلة… وقلب الحل. فالهجرة غير الشرعية لا تبدأ عند شواطئ المتوسط حيث تتسابق القوارب والزوارق. الهجرة تبدأ من اليابسة: من الحقول التي جفّت، من المشاريع الصغيرة التي لم تُدعم، ومن التعليم الذي لم يُحدّث، ومن اقتصاد لم يُدمج مع العالم الجديد.












































