الأورفية والشّعر العربيّ المعاصر للدّكتور علي الشّرع

الرابط المختصر

الكتابُ خلاصةُ عملٍ في البحثِ دامَ سبعَ سنواتٍ، ويقعُ في مئةٍ وثلاثٍ وسبعينَ صفحةً، وقد تَعهّدتْ وزارةُ الثّقافةِ الأردنيّة بنشرهِ سنةَ ألفٍ وتسعمائةٍ وتسعٍ وتسعين، ويتوزّع على تمهيدٍ وخمسة مباحث. ومن الجديرِ بالذّكرِ أنّ علي الشّرع ناقدٌ، وأكاديميٌّ، وأستاذُ الأدبِ والنّقدِ الحديثِ بجامعةِ اليرموك الأردنيّة منذُ أزيدِ من عشرينِ سنة، ولهُ العديد من الدّراساتِ والإسهامات، والكتب التّالية إلى جانبِ كتابِ الأورفيّة، من أشهرِ أعماله النّقديّة: بنية القصيدة القصيرة في شعرِ أدونيس، وتطوّر موقفِ الشّاعرِ العربيّ الحديث، ولُغة الشّعرِ العربيّ المعاصر، وغيرها. 

إنّ الشّرع في  كتابه يُخصص للحديثِ عن أسطورةِ أورفيوس كظاهرةٍ فنيّةٍ وفكريّة وأسلوبيّة، وأحسبُ أنّهُ من أوائلَ الدّارسينَ الأردنيينَ الذين فطنوا وتنبّهوا لهذه الظّاهرة، في معرضِ الحديثِ عن الجوِّ الأسطوريّ في الشّعرِ العربيّ الحديثِ، وعلى العمومِ، فإنّ أسطورةَ أورفيوس في جوهرِها تمثّلُ الإحساسَ الفاجعِ والقاسي بالخيبةِ المريرةِ إزاء حَدثِ الموتِ، والفراقِ، والمعاناة، والاستلاب، والاضطهاد، والاغتراب، وغيرها من المعاني، ما يُمكن أن أُسمّيه بصدمةِ المتوقّع.

على كلِّ حالٍ، فإنّ الأورفيّة مصطلحٌ مرتبطٌ بأورفيوس الأسطوريّ، الشّاعرُ، وعازفُ القيثار، الذي فقدَ زوجَتهُ يورديسي في ليلةِ زفافهِ، وقد هبطَ إلى عالمِ الموتِ السّفليّ بحثًا عنها. 

وبالمجملِ، فإنّ أسطورةَ أورفيوس شكّلتْ مصدرَ إلهامٍ وإبداعٍ عندَ الأدباءِ، وبهذا، طوّعَ الشّرع الأسطورةَ لتغدو مصطلحًا فنيًّا يُطلق على كلِّ الأفكارِ، والتّصوراتِ الرّوحيّةِ والفنيّةِ التي اتّخذت من أسطورةِ أورفيوس أساسًا لها.

على ضَوءِ ما سبقَ، يرى الشّرع أنّ أسطورةَ أورفيوس أوحتْ كثيرًا للمسائلِ الفكريّة والفنيّة وحظيتْ بعنايةٍ ملحوظةٍ من الكُتّابِ، كما يرى أنّ العقّادَ وأحمد زكي أبو شادي أسبق الشّعراءِ المحدثينِ توظيفًا، وقد تعاملا معها بطريقةٍ مبسّطة جدًا، تتفقُ وبداية تعامل الشّعرِ العربيّ الحديث مع الأسطورةِ.

بالإضافةِ إلى ذلك، يرى بأنّ التّوظيفَ لمضامين أسطورة أورفيوس ودلالتها الفكريّة وإيحاءاتها الفنيّة، جاءَ مع تطوّرِ الشّعرِ المعاصرِ في أعمالِ شعراءَ هم على التّرتيبِ: السّياب، أدونيس، البياتي. من هنا، يمثّل الكتابُ دراسةَ الظاهرةِ الأورفيّة في الشّعرِ العربيّ المعاصر، من حيثُ جذورها وتجلّياتها في الآدابِ الغربيّة، وأسبابها، وتفسيرها. من هذا المنطلق، اتّبعَ الشّرع في دراسته الظّاهرة الأورفيّة في مجموعةِ الشّعراءِ المذكورين سابقًا كعيّنة للدّراسةِ. وعلى ذلك، فإنّ هذه المقالة ستستحضرُ مضامينَ الكتابِ والظّاهرة الممكن تقديمها في هذا المجال بشكلٍ مبسّط، ومختصر، ولسنا بصددِ نقدِ الكتابِ بقدرِ ما يهمّنا عَرْضُ الفكرةِ، لهذا، نأملُ في هذا العرض أن يُساعد القارئَ على توضيحِ الفكرةِ وجلائها.

في المبحثِ الأوّلِ، يقدّمُ الشّرع ترجمةً شبه وافية لأخبار أورفيوس الأسطوريّ، كما يتطرّقُ إلى أصلِ الأسطورةِ وسبب شهرتها عند الغربيين، وخلصَ إلى اختلافِ الدّارسينَ الغربيين حول أسطورة أورفيوس. وعلى ذلك، انقسمَ الدّارسون إلى اتّجاهين: بعضهم يرى بأنّ الأسطورةَ من أصلِ أوروبيّ، والآخر أشار إلى أنّها تعودُ إلى أصولٍ شرقيّة.

تناولَ المؤلّفُ في المبحثِ الثّاني مسرحيةَ هبوط أورفيوس لتنيسي وليامز، مبتدئًا بالحديثِ عن تنيسي وليامز من حيثُ نشأته، وحياته، ودراسته، وأعماله، وشخصيّته السّوداويّة المفرطة بالحساسيّةِ، وبالنّتيجةِ، يُعدّ وليامز أشهر كاتب مسرحي من بين أولئك الذين ظهروا بعد الحرب العالميّة الثانية. يلخّصُّ الشّرع مسرحيةَ هبوط أورفيوس، هذا ويتساءل عن الكيفيّةِ التي وظّف بها وليامز الفكر الأورفيّ في مسرحيته، وبالمقارنةِ يوضّح الشّرع العلاقةَ بين وليامز وأرفيوس، مما جعلهُ يستنتجُ تأثرَ اللاحقِ بالسّابقِ من خلالِ اتّكائه على القالبِ الأسطوريّ الشّكليّ والدّلالي لعمله المسرحيّ، وعنوان المسرحيّة أوضح دليل على ذلك، بحيث يحتفظ وليامز بالإطارِ العامّ للطروحات الأروفيّة الأساسيّة، المتمثلة بالموتِ، والطّبيعةِ المتجددة، والحياة الإنسانيّة.

في المبحثَ الموسوم بعنوان السّياب وأسطورة أورفيوس، يلحظُ الشّرع انتباه السّياب إلى قيمةِ الأسطورةِ وعلى وجهِ التّحديدِ أسطورةِ أورفيوس؛ باعتبارها أداةً مهمّةً من أدواتِ التّعبيرِ عن التّجربةِ الشّعريّةِ الحديثة. وعند استقراء شعرِ السّيابِ، استنتجَ الشّرع أنّ أوّلَ ذكرٍ صريحٍ لرموزِ أسطورةِ أورفيوس، جاءَ في قصيدته "دار جدّي". ويرجّح بأنّ الرّابطَ بين جوّ القصيدةِ وأورفيوس، هو تصوّرُ السّيابِ أنّ عودته إلى دارِ جدّه الخالية من ساكنيها يشبهُ إحساسَ أورفيوس تجاه عالمِ الحياةِ بعد غيابِ يورديس. ويضربُ الشّرع أمثلة على توظيفِ السّيابِ لأسطورةِ أورفيوس كقصيدةِ "رسالة من مقبرة"، و"مدينة السّندباد"، و"شبّاك وفيقة"، وغيرها. وخلص إلى التزامِ السّياب بحرفيّة دلالة أسطورة أورفيوس مع تحويرات بسيطة في عناصرها تبعًا للسياقِ الخاصّ، إلاّ أنّ ما يلفت الانتباه حقًّا في هذا التوظيف كما ذهب الشّرع، إلحاح السّياب على الجانب ِالقاتم والمظلم في أسطورة أورفيوس؛ في شعرِه المتمثّل بفشلهِ ويأسه من غيرِ حضوره القوي المقارع للموتِ ليفتدي زوجته يورديس، وتفسير ذلك كما يرى، راجع إلى الظّروفِ الشّخصيّة التي عاشها السّياب صحيًّا وفكريًّا.

يصادف القارئ في المبحثِ الرّابعِ ملامحَ الأورفيّة ومصادرها في شعرِ أدونيس، ذلك من خلالِ تعقّب المؤلّف الظّاهرةَ وملامحها. ويرى أنّ أدونيس شاعر أورفيّ، إضافةً إلى ذلك، فإنّ علاقة أدونيس بأسطورة أورفيوس ـ كما يرى ـ بدأتْ في وقتٍ مبكّر من إنتاجه الشّعريّ، حيثُ اتّسمّ التّوظيفُ بالمباشرةِ لمضامين الأسطورة، مع الإشارةِ إلى تطوّرِ التّعاملِ معها في المراحلِ المتأخرة. ويتتبعُ  الملامحَ الرّئيسة لأورفيوس في شعرِ أدونيس، ليلاحظ أنّها برزتْ بشكلٍ واضحٍ في قصيدتين هما: أورفيوس، ومرآة أورفيوس. 

يعقد الشّرع مقارنةً بين الشّاعرِ الألمانيّ ريلكة وأدونيس مشيرًا إلى أنّ النّزعةَ الأورفيّة لدى ريلكة تجسّدتْ في عملينِ شعريينِ متداخلينِ، هما: مراثي دوينو، وأغانٍ إلى أورفيوس. وخلاصة ما يريدُ المؤلّف أنْ يركّز عليه، أنّ الصّلة بين أدونيس وريلكة لا تقتصر على مجردِ الاشتراكِ العامّ في الفكرِ الأورفي، بقدرِ ما يجسّد درجة التّقارب في الرّؤيا الفلسفيّة الشّاملة، وفي الأسلوبِ الشّعريّ شكلًا ومضمونًا.

في المبحثِ الخامسِ والأخير من الكتابِ والموسوم بعنوانِ البياتي والأورفية، يُطالع القارئ ظاهرة الأورفيّة في شعرِ البياتي. وبالرّغمِ من كثرةِ الدّراسات عن شعرِ البياتي، إلّا أنّ ظاهرةَ الأورفية في شعره كما يزعم الشّرع ظلّتْ خارج دائرة اهتمام الدّارسين. ويسلّط الضّوءِ على قصائد من مثل "أحزان البنفسج، وحبّ قديم، وبكائيّة، والموت في غرناطة، والموت والثورة، ومرثية إلى عائشة، والعنقاء"، وغيرها من القصائد في توظيفِ المضامين الأورفيّة، والحقّ يقال بأنّ هذا المبحث بالذّاتِ يُؤكّد ظهور صوت الباحث النّاقد ظهورًا واضحًا تامًا يختلف تمامًا عن سابقيه؛ بحيث يتوسّع الشّرع من خلالِ الرّصدِ كثيرًا في تحليلِ تفاصيلِ توظيفِ أسطورة أورفيوس في شعرِ البياتي. ليلاحظ بأنّ أوّل توظيف لأسطورة أورفيوس في شعرِ البياتي، يكمن في ثنايا قصيدة "أحزان البنفسج"، وقد انتهى بأنّ القصيدةَ تمثل مرحلةَ مبكرةً من تعاملِ البياتي مع الأسطورةِ، في حينِ أنّ قصيدةَ "حبّ قديم" تشتملُ على كلِّ العناصرِ الأساسيّة في أسطورةِ أورفيوس شكلاً وتخيّلًا، وبالتّحليلِ، فإنّ القصيدة تنطوي على صوتين: صوت العاشق أورفيوس المتمثل بالخيّام، وصوت المعشوقة المطلوبة يورديسي المتمثلة بعائشة. وهناك جانب آخر يمكن استخلاصه من تحليلِ الشّرع، هو أنّ البياتي يحاول استغلالَ القالب الأورفي في قصائده؛ لتشخيص الواقع الفاجع، ولاختراق عالم الموت. وبالمقارنةِ، فإنّ البياتي في نظرِ مؤلّف الكتابِ لا يختلف مع معاصريه وبخاصّة أدونيس والسّياب في توظيفِ الأسطورةِ؛ كمصدرِ ثراءٍ للمضامين والصّور الشّعريّة. والخلاصة، فإنّ أسطورةَ أورفيوس في الشّعرِ العربيّ تشتغل على المضامين الشّعريّة الحزينة، من حيثُ الموت، والحزن، والاغتراب، والخوف، والمأساة.

 وأخيرًا، أظنّ أنّ ما جاء به الشّرع في هذا الكتاب من حيث الظّاهرة الأورفيّة، قد أجاب بوضوحٍ عن عنوانه الموسوم بالأورفية والشّعر العربيّ المعاصر، من خلال رصد أبعادها، وملامحها، ومراحل تطوّرها في الشّعرِ، كما يمكن القول: إنّ الكتابَ على ما طرحه من أفكار فنيّة ونقديّة، من شأنه أن يفتح من جديد ملف حوار على تجاذبِ العلاقةِ وتداخلها بين الأدبينِ والثقافتينِ: الغربيّةِ والعربيّة.

  • باحث وناقد مستقل ـ الأردن.
أحمد البزور، مواليد الزّرقاء، سنة ١٩٩٠، حاصلٌ على درجة الدّكتوراه في الأدب والنّقد الحديث من الجامعة الأردنيّة، وعضو في الاتّحاد الدّولي للغة العربيّة، ولديه العديد من الأبحاث المنشورة في مجّلات محليّة وعربيّة محكّمة، وكتب عددًا من المقالات والمراجعات عن الأدب والنّقد في الصّحف والمواقع الإلكترونيّة المتخصصة.