الدرس المرعب" مما حدث!
الحمد لله، تسير الأوضاع في السلط إلى الهدوء، بعد أن تمّت "عطوة الاعتراف" أمس، وما نأمله أن ترقد هذه الفتنة، بعد أن أشعل النار فيها مجموعة من "مستثمري الخراب" وغوغائيون.
المسؤولية الأخلاقية والوطنية هنا تقتضي ألا نمرر ما حدث بلا قراءة دقيقة (كالعادة للأسف)، لأنّه مؤشر واضح على مستوى الأزمة السياسية وتداعياتها الثقافية والاجتماعية، فأحداث السلط ليست سوى "ألعاب نارية" أمام مشهد أكثر خطورة.
ذلك المشهد المرعب، سواء ما حدث في مدينة السلط، وما تلاها بالأمس في الجامعات، وقبلها في عدة مدن ومناطق شهدت انفجاراً للعنف الاجتماعي، يطرح أسئلة مهمة وأساسية، تمس صُلب مستقبلنا الاجتماعي والسياسي بامتياز: لماذا نتراجع في المسار السياسي والولاءات الاجتماعية، حتى مقارنة بالعقود السابقة التي كانت فيها قيم الدولة راسخة وثابتة؟
لا أكثر دلالة لخطورة الحال الراهنة من أن يتولّى أحد شيوخ "السلفية الجهادية" (في السلط) تهدئة الشباب الغاضب، ونزع فتيل الأزمة بينه وبين الأمن، في وقت تعجز فيه الجهات المعنية في الدولة عن فرض خطابها ومؤسساتها!
إذ لا يمكن تقبّل فقدان الدولة كافة أدواتها القانونية والسياسية والأمنية، ثم اللجوء إلى وسطاء يعتمدون منطق "تبويس اللحى" (مع الاعتزاز بكل من ساهم بإطفاء الفتنة). فذلك يُلغي تماماً مفهوم دولة القانون والمساءلة، ويردنا إلى مرحلة ما قبل الدولة، بدلاً من أن نتقدّم بصورة متوازية في بناء الثقافة القانونية التي ترسخ مفهوم المواطنة في علاقة الدولة بالمجتمع والفرد.
ما يحدث حالياً من "الاستقواء على الدولة" وتهشيم هيبتها هو الثمن المرير الذي ندفعه لسياسات رسمية قتلت الحياة السياسية خلال السنوات السابقة، وهو جواب منطقي لمجلس نوّاب يأتي عن طريق التعيين والمراضاة، ونتيجة حتمية لضرب استقلالية الجامعات والمؤسسات المدنية الأساسية التي تشكل مصدر إنتاج النخب الوطنية العاقلة والناضجة.
الآن، لا حياة سياسية فاعلة تعيد إنتاج الثقافة السياسية والولاءات الفردية، ولا أحزاب قادرة على امتصاص الاحتقانات والإحباطات وتحويلها إلى برامج ونشاطات سياسية سليمة، ولا جامعات تعيد هيكلة الأفكار والثقافات وتصنع التنوير داخل المجتمع، ولا مدارس تدرّس معنى القيم المدنية والسياسية والثقافة الوطنية، وحتى شيوخ العشائر ورجالاتها المعتبرون يفقدون حضورهم اليوم ودورهم التقليدي في حل النزاعات الاجتماعية وإسكات المتهورين والجُهّال.
المفارقة أنّه على الرغم من تشكّل وعي واضح لدى نخبة واسعة من السياسيين والإعلاميين حول الأزمة السياسية - الاجتماعية الراهنة، إلاّ أنّ هنالك ضعفاً ملاحظاً في الاستجابة وغيابا لمراكز تفكير وغيبوبة لعقل سياسي رسمي، يمتلك الجرأة والرؤية، بل تبدو القاعدة الدارجة اليوم في البلاد هي "القربة المخرومة" أو "حوار الطرشان" بين الدولة والنخب السياسية والإعلامية!
الدرس المهم جداً: أنّ الكُلفة التي تدفعها الدولة ثمناً للإصلاح السياسي الجوهري، ولتكريس دولة القانون والمؤسسات والمواطنة والحريات هي أقلّ بكثير من الطريق الكارثية الحالية في "تأميم الحياة السياسية"، فمحصّلتها انهيار قيم الدولة والمجتمع معاً!
الغد