’’يا يما لو جاني العيد‘‘، حين تُغنَّى النكبة!

لم يَدُر في خَلَدَي أحمد مُحرَّم وقسطنطين زريق ما سيحدُثِهُ توصيفُهُمَا المأساوي للكارثةِ الفِلسطينية، من سرديةٍ بُكائيةٍ طويلة، توثِقُ صِلةَ الإنسان الفلسطيني بالمكان، وتصطنعُ مفهوماً أسطورياً لهُ، وتُرخي عليهِ نوعاً من الحنين المُمتزِج بالدمِ والدموعِ والموسيقى الشَجيّة. وإن كان للمكانِ مفهومُهُ العبقرِي، فقد شَكَلَّت السرديةُ النَكبويَّةُ، إرثاً من المفاهيمِ العابِرةِ للزمانِ والمُتغلِبةِ عليه، فالمكانُ ليسَ شيئاً تُعمِّقُهُ الخرائِطَ وتحتَويه، بل هو نوعٌ من الذاكرةِ الصوريّةِ الحيَّة،

يحمِلُها المنكوبُ كضميرٍ لا يقبَلُ التعدُّدَ والتلاشِي، بل ولِرُبَّما شكَّلَ المكانُ بمفهومِهِ الفِلسطيني، شخصيةَ المنكوبِ وعقليتِهِ، فهو ابنُ الطريقِ ونبيُّ الذاكرةِ والصوتِ الذي يترددُ في معابِدِ الإنسانية، يذكِّرُها بما فقدتهُ من معانِيها الفاضِلةِ حين تواطَئت على انتزاعِه من مكانِهِ واقتلاعِهِ من جذورِه، فهو يبدو في البدايةِ غاضباً كإلهِ حربٍ يوناني، ثم هو بعدَ ذلك بكلِ ما هُو عليه، مُنكسِرٌ عندَ بابِ بيته يبكي.



 

 

  • قسطنطين زريق

  •  

يقالُ أنَّ أصلَ موسيقى الفلامينكو يعودُ إلى أواخرِ العصرِ الأندلسي في اسبانيا، وأنَّها أي الفلامينكو كانت تعبيراً باكياً لمأساةِ التهجيرِ الأندلُسي، وأن للكلمةِ أصلاً عربياً مركباً وهو”الفلاحُ المنكوب“، إذ كانت الفِلاحةُ هي المِهنةُ الغالبةُ على أهلِ الأندلس، وقد خلَّدت الفلامينكو بحركاتِها الدافئة، وتعابيرِ راقِصِيها الباردَة، نكبةَ الأندلسيين وأَحيَتهَا قُروناً عديدة، في دلالةٍ على ما للفنونِ من قدرةِ توثيقِ المُعاناةِ والمصائِبِ الكُبرى، وهو ما تكرر في النكبةِ الفلسطينيةِ تماما، وقد وَجَدَ الإنسانُ الفلسطينيُّ نفسَهُ دونَ وعيٍ مِنه، يسردُ مأساتَهُ بكلِ طريقةٍ مُمكِنةٍ، فهو يكتُبُها ويوثِقُها، يحفظُ أسماءَ قُراهْ، يرسمُ صوراً لمدنِهِ الساحليةِ قبلَ النكبة، ويحتفظُ بقواشينِ الأرضِ ومساحاتِها، ثم يكتبُ الأغاني ويُدندِنُها، في تعبيرٍ أكيدٍ عن المرثاةِ والحنينِ والاشتياق.

  •  

صور من النكبة الفلسطينية

 

كانَ أبو عرب بكوفيتِهِ وعقالِهِ الأسود، تجسيداً صوتياً للسرديةِ النكبوية، فهو مُنشِدُ النكبةِ ومنكوبُها، وهو بعدُ وليدُ قريةِ الشجرة، وشاهدٌ حيّ على كارثةِ تهجيرِ أهلِها منها، فاجتمعَ بذلك فيهِ، وقعُ المصيبةِ الكُبرى، وأسى الاقتلاعِ والغُربة، وشهدَ في سِنِيهِ المُبكِرة ضياعَ فِلسطين، ونَمَت في ذاكرتِهِ كُلَّ تلك المشاهِد، لتذوبَ في حبالِهِ  الصوتية، فإذا أنشدَ بعدَها، شعرتَ كما لو كنتَ تشهدُ نكبتَكَ ونكبتَهُ، وأن ألفَ شجرةٍ من الزيتونِ تُغني معه، وأنّكَ المقصودَ الوحيد، يدُسُّكَ دساً في كلماتِ أغنيتِه.

 

 

أغنية”يا يما لوجاني العيد‘‘

 

 

أشهرُ أشواقِ الرجلِ على الإطلاق أغنيتُه”يا يما لو جاني العيد“للشاعر”ابراهيم مطر“، وهي التي تتراوحُ بين كونِها مَرثِيَّةً وبين كونِها نوستاليجا فِلسطينية، يستردُّ فيها الشاعر أولاً أُمَهُ بكلِ ما تمثِلهُ الأمُ من رمزيةٍ، ثم يستجدي في المكان أصواتَ أهلِهِ ورفاقِهِ ومن أحبَهم، وقد كرَّسَ الشاعرُ العيدَ بمعنىً مأساوي، كأنَهُ يقرِرُ بشكلٍ حاسِم، أن العيدَ لا يمكنُ أن يكونَ دون أُمِّهِ، دون الذين ترعرعَ معهُم، دون بيوتِ قريتِه، ودون الذين طالما سامَرَهُم في كرومِ العنبِ وبيادرِ القمح.

أما أبو عرب، فقد تلاعبَ بالكلماتِ أيَّما تلاعُب، وأدَارَهَا في صوتِهِ دورةً سماويةً، تكادُ تخلعُ قلبَ السامِع، فإذا نادَى”يُمــا يا يــُما“، شعرتَ كَما لَو أنَّه ينادي كُلَّ أمٍ فلسطينيةٍ باسمِها، يَستدعِيها إلى الضمير، لتَنسُجَ معهُ وفي مقاماتِ صوتِهِ، بكائيةً طويلةً من الاشتياقِ الأبديِّ والحنين، ثم يكمل أبو عرب فينشد بصوتٍ رَخِيم:

قالوا اجا العيد قلت العيد لصحــابوا شو بينفع العيد للي مفارق حبابه

العيد يا يُما لما بلادنا بتعود وأرجع ع ارض الوطن وابوس ترابه

يايما لو جاني العيد يما يا يما و مافي عيد بيسعدني

وآني عن دياري بعيد يما يا يما مالي حدا يعايدني

 

يتقنُ أبو عرب استخدامَ المقاماتِ الموسيقيةِ، وهو هنا يستخدمُ الصَبَا، بصوتٍ خاشعٍ، يُضفي على بكائيتِهِ نوعًا من الجلالِ والمهابةِ، يخضعُ فيها لِحزنهِ المُقيمِ في قلبهِ أولا، ثم في صوتهِ ثانيا، وقد يؤلمكَ كما آلمهُ، ذلك البكاءُ الخفيُّ في مناجاتِهِ لأمِّهِ، فأُمُهُ هي العيدُ والعيدُ هو أُمُهُ، ثم يرتحلُ بعيدا في إنشادِ نكبتهِ.

يايما لو جاني العيد إسألتو وين الغوالي

الناس بتلبس ثوب جديد يمايا يما  شيلي من الردم اطفالك

ويا يما لو جاني العيد وعيدي يما على حدودي

الناس تعيد إيد بإيد يما يا يما أي وانا بمسح باوردي

ويايما لو جاني العيد ومافي عيد يفرحني

يومَ لبسَ أبو عرب كوفيته، تشعر كما لو كان الرجلُ قد أقسمَ على أن يمثلَ الوجعَ الفلسطيني بكل تفاصيلِهِ، فهو هنا يعطي الكلماتَ روحَهُ الدافئَة، ويخاطبُ أمَّهُ بطفولةٍ شديدة، يشكو لها همَّهُ وحربَهُ على الاحتلال، فالناسُ منشغلون بأعيادهِم، وهو يمسحُ هناك، عند الحدِّ الفاصلِ بينهِ وبين بُحورِ الذاكرَة، بارودتَهُ المُهترِئة.

آي وآني عن دياري بعيد يما يا يما وبعد حبابي جارحني

ويا عيد ايش جاباك اليوم ومالي قلب يضحكلك

وكنت عليي مابتلوم يما يا يما ولو متلي مفارق اهلك

يختتمُ أبو عرب فصولَ مأساتِهِ ومناجاتِهِ، حينَ يعترفُ أن قوتَهُ لم تَكُن إلا ضَعْفَهُ، فعلى الرَّغْمِ من حربِهِ الممتدَّةِ ضدَّ الاحتلال، وبُعْدَهُ المستمرَّ عنِ الدِّيار، إلا أن صوتا بعيدا في قلبهِ، يؤلمهُ ويُضعِفُهُ، يُذكِّرُهُ بأنهُ مُقتَلَعٌ شَريِد، وأن ليسَ للأشياءِ في نفسِهِ، ما لها من المعاني خارَجَهَا، فهو إن كان يراهُ عيدا كما يراهُ الناس، إلا أن للعيدِ معناهُ الذي يريدهُ أبو عرب، الوطنُ أولا ثم الوطنُ ثانيا ثم الوطنُ ثالثا، وأُمُهُ هناك تَرْقُبُ في البعيد، عودَتَهُ الأخيرة.

 

بالتعاون مع عربي360

 

أضف تعليقك