بات واقعًا أن حرفة الصحافة في ظل سطوة مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية التي شتّتت انتباه الجمهور وساهمت في سلب الوعي، لم تعد كما كانت. وزاد من تفاقم هذا الواقع دخول الذكاء الاصطناعي على المشهد وبشكل متسارع، ما يجعلنا نتساءل: من يوجّه الرأي العام اليوم؟ ومن هو المسؤول عن هندسة الوعي؟
فالمشهد -على ازدحامه- يتراءى لنا من بعيد أن تلك المواقع شاغرة، أو ربما مشوشة، أو لا يقوم من يتولاها بمهامه بالشكل الأمثل وفقًا للجانب الذي يجلس عليه من الطاولة. وإن جانب هذا التوصيف بعض الدقة، إلا أنه لا يجافي الأمر الواقع!
في السابق كان لنا أن نتخيل من يقترح الأجندة الإعلامية للمؤسسة ومن يضعها قيد التطبيق ومن ينفذها. اليوم طبعًا هذا غير وارد، فعوامل عدة تتدخل في ذلك، ربما يكون أقلها تشتت النهج وعدم وضوح الهدف لدى كثير من المواقع والمنصات الإعلامية، وبخاصة الرقمية.
وفي الخلفية دور الذكاء الاصطناعي اليوم في صياغة تلك الأجندات أو تطبيقها ومن ينفذها وأدوات تنفيذها، فالصحفي لم يعد اللاعب الوحيد في غرف الأخبار.
وسواء كنت مسؤولًا عن مؤسسة إعلامية أو منتجًا للمحتوى فيها أو مستثمرًا أو حتى متلقيًا لذلك المحتوى والخدمة الإعلامية، فأنت جزء أساسي اليوم في صناعة الإعلام. وإن لم نَعِ ذلك فإننا سنبقى عالقين في خبر كان، نراقب ماذا سيحدث في المستقبل، والعالم سيتركنا خلفه بفجوة أقلها عشر سنوات إن لم تكن أكثر!
وهذا بالتأكيد لم يعد منطقيًا في ظل دخول أدوات الذكاء الاصطناعي المبهرة بأدائها وغموضها ومدى قدرتها.
ربما يكون أكثر الأسئلة التي تتردد حاليًا: هل يدعم الذكاء الاصطناعي الصحافة أم يقتلها؟
شخصيًا لا أرى أن هذا السؤال يتم الإجابة عليه بنعم أو لا، حتى لو حاولنا ذلك؛ فالقصة أعمق والجدل حولها مستمر، وإمكانيات الذكاء الاصطناعي ومعرفة حدوده وفرصه باتت ضرورية. ولا يجب علينا أن نخاف من سبر أغواره، بل علينا استغلاله كفرصة لتعزيز الإبداع الإنساني والنمو في العمل الصحفي، فوجود الصحافيين البشر سيظل ضروريًا.
لأن في الصحافة جانبًا إبداعيًا وإنسانيًا وربطًا حسيًا وعاطفيًا غير متوقع، ولا أظن أن الذكاء الاصطناعي يملك هذه الميزات حتى الآن على الأقل.
ما يثير تساؤلًا عميقًا: هل يمكن للذكاء الاصطناعي ليس فقط إنتاج المحتوى، بل تشكيل الرأي العام وبشكل مباشر؟ ونعيد ربط ذلك بالسؤال السابق: من يشكل الوعي ومن يقود الرأي العام اليوم؟
لا أظن أن الجواب على تلك التساؤلات حاضر وبشكل واضح، وهذا قد يكون أحد أهم الأسباب التي تجعل من الضروري إعادة النظر في صناعة الإعلام بدءًا من المرسل، مرورًا بالرسالة والوسيلة، وانتهاءً بالمستقبل؛ لأنه كما هو ملاحظ أن الرقمنة غيّرت ترتيب العملية الإعلامية والاتصالية جذريًا.
إذ استُبدل الخط المستقيم التقليدي (مرسل–رسالة–وسيلة–مستقبل) بشبكة وعملية دائرية وتفاعلية ومتداخلة: فالمتلقي أصبح منتجًا للمحتوى، والمرسل يمكن أن يتحول فورًا إلى مستقبل عبر التعليقات والتفاعل، والوسيلة أصبحت منصّة تفاعلية وليست مجرد قناة أو مؤسسة أو موقع، تتدخل في الوصول والانتشار وهي جزء من الرسالة نفسها.
والرسالة نفسها لم تعد ثابتة؛ تتغير بناءً على تفاعل الجمهور (تعليقات، إعادة نشر، مشاركات)، وتتطور لحظة بلحظة بحسب الخوارزميات والتحليلات، وقد تُعاد صياغتها من قبل المستخدمين، وتتدخل فيها الخوارزميات والذكاء الاصطناعي والمؤثرون وغيرها.
ولكن هذا لا ينفي أن في أدوات الذكاء الاصطناعي فرصة في تطوير المحتوى ومهارات الإعلاميين أيضًا، على سبيل المثال: المساهمة في تحسين جودة المحتوى وصياغته ومصادره، وتقليل الوقت في المهام الروتينية الآلية كالتفريغ والتدقيق وغيرها، للتركيز على أصالة الفكرة وتطويرها. والأهم أن هذه التقنيات لا تلغي دور الإعلامي الحقيقي، بل تعزز قدرته على التفكير التحليلي والإبداعي.
ولكن في خضم هذا الانبهار -المبرر- بأفق أدوات الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار، فإن هناك مخاطر أخلاقية جوهرية يجب الانتباه لها، أهمها: الشفافية والإفصاح عن مساهمة تلك الأدوات في إنتاج المحتوى وإبراز ذلك، والتحيز والتضليل ودور الخوارزميات في ذلك، والتأثير على التوازن والثقة والمصداقية، إذ يحتوي المحتوى الناتج عن الذكاء الاصطناعي على أخطاء وتكرار ومحتوى معادٍ عن أعمال منشورة مسبقًا.
والتخوّف الأكبر هو القلق الحقيقي من أن الذكاء الاصطناعي قد يقلل من الحاجة للصحفيين، ويهدد الوظائف الإعلامية التقليدية ويؤثر على التنوع في الرؤى الصحفية.
رغم كل المؤشرات التي تبرر هذا القلق، إلا أنني أرى أنه إذا احتفظنا بالإشراف الإنساني الدائم، وتدريب وبناء قدرات الصحفيين على أدوات الذكاء الاصطناعي: كيف يستخدمونها، ومتى، وما حدودها، ووضع إطار تنظيمي وأخلاقي للمحتوى المولّد عبر الذكاء الاصطناعي أو بمساهمته: كيف نعلن عن ذلك؟ متى؟ وكيف؟ وأين؟ كيف نتعامل مع الأخطاء التي تحدث؟ كيف نحمي الخصوصية؟
فإنه في هذه الحالة بالإمكان تحقيق توازن بين كفاءة الذكاء الاصطناعي والحفاظ على جودة وإنسانية العمل الإعلامي.
ويمكن تحقيق ذلك بتحديث مناهج الإعلام لتشمل الذكاء الاصطناعي، ووضع خطة تدريس عملية وليست نظرية فقط، وبناء شراكات بين الجامعات ومؤسسات الإعلام وشركات التكنولوجيا، وتأهيل كوادر قادرة على العمل في بيئات إعلامية هجينة تجمع المهارات الرقمية والإنسانية.
الواقع يقول إن تعلم تقنيات الذكاء الاصطناعي غير محدودة، لكن يمكن إتقانها خلال فترة قصيرة. تخيلوا معي ما يمكن تحقيقه في واقع الإعلام اليوم: أن يتقن تلك التقنيات الشخص الصحيح في المكان الصحيح والوقت الصحيح.












































