
من وحي الإيموفيليا، استعذاب الوقوع في الحب والهرب منه

بقلم: مهند العزة
هذه أول مرة يسمع بها بكلمة (Emophilia - إيموفيليا). في البداية ظنها من مرادفات الهيموفيليا، لكن سرعان ما بدأت الأفكار تترنح بين جنبات رأسه وهو يقرأ أنه عارض (الانفتاح العاطفي غير المحدود.. الميل للوقوع في الحب..). هل يضع إذن كل علاقاته السابقة والحالية ثنائيةً كانت أو أحادية على المحك ويبدأ بتدقيقها وتقييمها ليتأكد ما إذا كانت حقيقيةً أم من عوارض الإيموفيليا؟ لم يعجبه أن الفكرة لاقت في نفسه صدا، فهو الذي يؤمن بالعشق إلاهاً وبالعشاق رسلاً، فكيف له أن يقيّم الإله ويشخص الرسل؟
“إيموفيليا.. إيموفيليا..”، أخذ يرددها مذيلاً إياها بضحكة مصطنعة تشي ببداية اهتزاز ثقته بنفسه.. كان يهم بالدخول إلى الحمام.. لكنه عاد.. وقف عند باب غرفة المعيشة.. أخذ يمرر يده اليمنى على أعلى حلق الباب وينقر بأصابعه نقرات خفيفة غير منتظمة.. لم يدرِ كم مضى عليه وقت وهو في هذه الوضعية.. استفاق على صوت ابنته وهي تناديه بصوت مرتفع ضاحك: “بابا! ممكن أمر؟”.
استدار حول نفسه ربما مرة.. بل اثنتان.. أو ربما لم يستدر أصلاً.. لكن المؤكد أن كل شيء حوله كان غير ثابت.. أخذ يبحث عن مقعد يلقي بجسده المترنح عليه.. مد يده.. لا لا.. هذه منضدة الوسط.. نعم هنا... كأنه لأول مرة يتعرف على بيته.. أخيراً استلقى على كرسيه الهزاز المكسور.. كيف يبدأ.. هل من الماضي هبوطاً إلى الحاضر أم العكس.. يحب الماضي كثيرا.. يعشق كل شيء فيه.. حتى سنوات طفولته المريرة.. يحب فيها اللحظات التي كان يهرب فيها من وحشية الحاضر إلى مستقبل حالم رسم فيه صوراً لحبيبته بل لحبيباته.. ذلك المستقبل الحالم الحلم الذي تحقق بعضه وظل معظمه معلقاً بين الأرض والسماء في انتظار من يرفعه إلى حيث لم تصل دعواته وتوسلاته وهو صغير.. ربما لضعف صوته المكبوت.. أو ينزل به إلى الأرض نعلاً لأحذية رائدات وضحايا المدرسة “الواقعية في العشق” التي ليس فيها من الواقع سوى سطوة التقاليد وانصياع العبيد.
هل أبدأ من عندها؟ تملكته الدهشة من وجودها أصلاً في أجندة أحلامه غير المؤوّلة! كيف يمكن أن تكون مهديه المنتظر أو مسيحه المخلص؟ كيف؟ إذن هي حتماً من أعراض الإيموفيليا.. انتابه شعور عميق بالارتياح.. هذه أول مرة يراها بالحجم الطبيعي.. حجم قد يساوي آماله المتضائلة في سوق خرافة وتخاريف «فارسات الأحلام»، لكنه حتماً حجم يصغر بكثير آلامه الهاربة من اللوح المحفوظ التائهة بين المساجد والكنائس ومقاهي الملحدين وحانات الماجنين. نادى بصوت مرتفع مفعم بالطمأنينة على مساعدته طالباً منها كوباً من الشاي ثم استمر.
طيب ماذا عن؟ استحضر تقاسيم وجهها مستشعراً ملمس شعرها متنفّساً رائحة عطرها الذي يكتسب عبقاً خاصاً من جسدها.. لكن.. هل معنى هذا أنه يحبها؟ أم تراه إعجاب فنان شبق بامرأة رسمها على هواه وأدخلها دنياه وهي تدور في فلك آخر بعيد.. حاول استحضارها خارج بروازه الذي صنعه لنفسه ووضعها فيه.. لم يبقَ منها شيء سوى رائحة عطرها.. أخذ يقلّب صفحات ذاكرته باحثاً عن فكر.. منطق.. طيب عبث مشترك.. لا شيء.. إذن هذه حالة إيموفيليا متقدمة.. التي تليها فالتي تليها.. النتيجة ذاتها وإن كانت بأشكال مختلفة.. حاول أن يجد بين بطلات وضحايا رعونته الإيموفيلية شيءً مشتركا.. راجع تفاصيل حواراته الشفهية والمكتوبة والمشفرة معهن جميعا.. شيءً واحدا ظهر.. غالبيتهن تدفعه ليبوح بشعوره المرضي أو الحقيقي، لا يهم.. ليتفاجأن بدورهن ويعتذرن بعبارات مقتبسة من أرخص سيناريوهات سينما الأبيض والأسود المعهودة.. لتنتهي القصة وتعيد نفسها مرة ومرات دون أن يتعلم الدرس أو يمل تكراره. شعر بمهانة وضحالة في المنطق.. كيف يصنع براويز بهذا الحجم لبطلات يعشقن التيه والغيبة ويكرهن الاستحضار والحضور.. كيف رأى ضوء الشمعة قرص شمس! لم يغفر لنفسه التعلل بحقيقة «أن المتعطش للنور لا يعبأ بحجمه ولا بقوته». انتشله صوت مساعدته من عميق تأملاته وسحيق لومه لنفسه؛ وهي تذكره أن الشاي الذي طلبه بالتأكيد أصبح باردا.. أخذ منه رشفة وأجابها باستعجال وثقة مفتعلة: لا.. جيد.. جيد..
إذن الحاضر ما هو إلا إيموفيليا.. لم يزعجه مجمل هذه الخلاصة، بل وجد أنه ربح منها كثيرا.. فهو الآن يرى بوضوح أكثر ويعطي ماضيه القريب وحاضره المتسارع نحو الماضي ما يستحقان من انتباه واحترام إن استحقاه أصلا.
هل يستمر.. إنه يقترب من قدس أقداسه.. ماضيه البعيد المستَحضَر على الدوام.. ملاذه الذي يحتمي فيه من ذكريات مرارة البدايات وصدمات سراب الأمنيات.. هل يبدأ!
دون مساحة للاختيار، فرضت نفسها وكانت أول المستحضرات.. كيف لا وهي أول من سمع منها وعلمته كيف يسمعها الكلام غير المباح.. وهي من رأت منه وباحت له بالأسرار التي تخفيها معظم العاشقات.. إنه خريج جامعتها الكبرى التي درس في كل أقسامها طوال سنواته الخمس التي أبقته فيها.. ترى هل ممكن أن يكون أبطال التجربة الأولى وشخصيات رحلة الكشف والاستكشاف عن الذات والجسد مجرد مصابَين بالإيموفيليا؟ مستحيل.. كانت فرصةً أحب استثمارها ليتذكر كل تفصيل ممكن بينهما.. لم يساوره شك بعدها أنه أحبها.. فلم تكن مجرد صورة في برواز.. لم يختر الرحيل ولم تتحمل ضريبة البقاء.. رحلت.. ندمت.. عادت فرفضها.. إنه داؤه المميت الآخر: المثالية غير الواقعية التي لا تغفر فيها الأخطاء حتى وإن غفرت السماء.. كلما تذكر كيف صدّها حينما عادت مدفوعاً برغبة الانتقام الصبيانية «للكرامة المهدورة.. والكبرياء المجروح..» يشعر بسطحية تفكيره يومها وأن عقاب الإيموفيليا أقل ما يستحق.
صور كثيرة تتالت.. لم يتوقف عند أي منها، فلم يخدع أياً منها، وأياً منها لم تطلب ولم تعرض خداعه.. كانت متطلبات تقاطعت فالتقت ثم تباعدت وتفرقت.
مهلا.. ثمة صورة واحدة.. ضالته التي لم يجدها، ومع ذلك يشعر بفخر كلما استحضرها، لأنه كان قد تعلم درس قيمة الوقت وقصر الحياة من سنيه الخمس التي ذهبت أدراج الرياح.. لقد أصبح من نسّاك اغتنام الفرصة وعيش اللحظة والنظر مدّ يده.
لن ينسَ كيف سار معها ثم توقف قبل أن يبلغا الشارع، وقال لها أنها إن كانت تعشق التقليد والتقاليد فلا بأس.. إن كان لا بد أن يكون هو من يبادر ويصرح عن مشاعره فلا مشكلة.. ثم مباشرةً أخبرها بما تعلمه، أنه يحبها.. لوّثت اللحظة بالأكلاشيهات المحفوظة.. فشكرته، ثم اعتذرت منه طالبةً أن يستمرا ولا مآخذة “صديقين”.. لم ينزعج إلا من طريقة الطلب التي أكدت تأثر أجيال برمتها بأفلام الأبيض والأسود الهابطة.. طلبت منه أن توصله إلى بيته. لكنها كمن انغمس في بركة ثلج حينما أخبرها أنه ذاهب للقاء صديقيه على المقهى ليلعبا الدومينو.. خذلها ببروده المفتعل وأنه لم ينهار باكياً ولم يحاول حتى إقناعها.. هكذا أصبح.. مباشر في عواطفه إلى حد الحدة والنفور.. إنه ثمن وحصاد التجربة الأولى.
ظلا صديقين من جهته على الأقل كما طلبت.. عاد إلى بلده.. سارع لتعلم استخدام الحاسوب إذ كانت قد شاعت مقولة «من لا يستخدم الحاسوب أمي»، فَكرِه أن يكون من الأميين في الحاسوب أيضاً، يكفيه أمّيّة كيفية البحث عن العشق وفن الاحتفاظ به.. أنشأ لنفسه حساباً على الهوتميل وكانت أول رسالة يرسلها لها.. سأل عن أخبارها وأحب أن تكون أول رسالة يتلقاها منها.. ظل يزور المقهى الإلكتروني 3 أيام متتالية ليقرأ ما وصله من رسائل باحثاً عن رسالتها التي لم يتوقع أن تكون أكثر من سلامات وتحيات وتعبير عن السرور أنه تعلم الحاسوب بسرعة.. في اليوم الرابع.. بينما ينزل بالسهم إلى الأسفل ليقرأ عناوين الرسائل المستلمة وأسماء المرسلين.. قرأ قارئ شاشته اسمها.. صعد بالسهم إلى أعلى ونزل 3 أو أربع مرات ليتأكد.. ثبت السهم عند اسمها وضغط على زر الإدخال.. فتحت الرسالة.. بدأ يقرأها وقد كتبت بالإنجليزية.. إنها تشكو له من حزن يتملكها وضيق لا تستطيع التغلب عليه.. وصفت كيف “أنها تجد نفسها وقد خرجت من البيت لتسير إلى حيث لا نهاية على غير هدى..”، وصفت كيف تعيش حالةً من الصراع غير المتكافئ مع مشاعرها، من خلال لعبة شطرنج تخيلت أنها تلعبها، وكأنها هي سيف التقاليد وخصمها المقابل لها يجسد المشاعر واجبة التصديق.. كانت بارعةً في وصف النقلات وحركات القطع وربط كل حركة بشعور معين.. لتنهي اللعبة ليس بموت الملك ولا بالتعادل.. بل كما وصفت: “بانكسار الجنود واستسلامهم واستسلام الملك واستسلامها معهم”، لتختم هذه الرسالة التي توازي مقطوعةً أدبيةً رائعة، بكلمة كتبتها هكذا: Bahibaaaaaaaaaak!
أعاد قراءة الكلمة الأخيرة ربما 20 أو 30 مرة.. ربما أكثر من ذلك بكثير.. عدّ حروف ال (A) المتكررة التي سمع فيها صرختها المكبوتة واعترافها المتأخر.. أعاد قراءة كامل الرسالة مرات ومرات على مدار أيام وأسابيع.. لم يندم على شيء في حياته حتى الآن مثل ندمه على أنه فقد هذه الرسالة من صندوق بريده الإلكتروني لأسباب لا يعرفها، حتى أنه بعد سنوات من المحاولات المضنية لاسترجاعها أرسل إلى إدارة الموقع يطلب منهم المساعدة في استعادتها حتى وإن كان ذلك مقابل مبلغ من المال.. انتبه الآن فقط أنه لم يعاملها بمنطقه المثالي غير المتسامح.. فكيف بارك عودتها وغفر لها قولها إنهما -عدم المآخذة- “أخوة وأصدقاء” وها هي تعود! لماذا لم يقبل ذلك ممن قضى معها خمس سنوات؟ ربما لأن التجربة الأولى والصدمة الأولى تفرز ردة فعل أولى غير مستقرة.. المهم أنها عادت وعاد وما لبثت أن رحلت ورحل.. لكنها لم تعد.. بل لجأ والدها المنساق خلف أفكار أجداده إلى حيلهم الباهتة القديمة.. فأحضر لها من لديه كل مقومات الزواج وإن باستثناء «تافه وسخيف، وهو أنه لا يحبها.. ولا ضير عند من يرون في الحب رذيلة وفي الزواج سترة». المهم.. هل كانت لاعبة الشطرنج المستسلمة من أعراض الإيموفيليا؟ خصوصاً أنها جاءت بعد تجربة عاطفية أولى ثقيلة وطويلة؟ لم يحتمل مجرد مناقشة السؤال وشخصت أمامه فوراً مقطوعتها الأدبية التي أرسلتها في بيان الإفصاح عن مشاعرها وحبها له.. كأنه أحب طريقة إعلانها عن استسلامها وحبها له أكثر من فكرة أنها أحبته. ليس هذا غرور، فهو أبعد ما يكون عن ذلك بشخصيته الكمالية المتأزمة.. وإنما تقديساً للحب في صورته المثالية التي بحث عنها وضاع من عمره سنوات إلى أن أدرك أنها فقط طي دواوين الشعر وصفحات سيناريوهات الأفلام الرومنسية المملة التي تعرف نهايتها من مجرد مشاهدة بدايتها.
قبل أن ينهض ليفتح الباب لعامل توصيل الطلبات الذي قرع الجرس حتى الثمالة.. أقفل دفتر حساباته ومحاسبته لنفسه كما أراد: ما مضى واقع وقع، والحاضر ما هو إلا محاولة بائسة لإعادة صياغة الماضي أو استمرار في رحلة البحث عن فارسة مثل السراب، كلما اقترب منها أدرك أنها ليست هي، لأنها من تصميمه الذي جاء نتيجة تصميمه على العثور على صورة تلائم بروازه الذي لا يملأه إلا الفراغ.