لماذا لا يزال الإعلام المجتمعي مهمًّا في العصر الرقمي؟

الرابط المختصر


على مدى عقود، انتقل الجمهور من وسيلة إعلامية إلى أخرى، وغالبًا ما جرى التعامل مع منصات الأمس باعتبارها غير ذات صلة. ومع ذلك، وبرغم التطور التكنولوجي المتسارع، تبقى حقيقة أساسية واحدة: المحتوى ما يزال هو الملك. فالصّحافة المهنية والنزيهة والواقعية تظل حجر الأساس للعمل الإعلامي، سواء ظهرت على موجات الـFM، أو على شاشات الهواتف الذكية، أو عبر منصات التواصل الاجتماعي.

خلال السنوات الأخيرة، اتخذ النظام الإعلامي العالمي منحًى خطيرًا، إذ تزداد حالة التركّز على عدد محدود من المنصات الرقمية العملاقة التي تتحكم بتدفقات المعلومات حول العالم. ومع ازدياد نفوذ الشركات الضخمة أو الحكومات المهيمنة، تتراجع الثقة العامة، ويصبح الجمهور أكثر اعتمادًا على عدد صغير من الأقطاب الإعلاميين. وهنا تبرز أهمية الإعلام المجتمعي كمساحة مستقلة توازن هذا الخلل.

دور الإعلام المجتمعي في الجنوب العالمي

ظهرت وسائل الإعلام المجتمعية في النصف الثاني من القرن العشرين، وأثبتت فعاليتها خصوصًا في بلدان الجنوب العالمي، حيث غالبًا ما تكون وسائل الإعلام الرسمية متطابقة مع توجهات الحكومات، بينما تميل وسائل الإعلام الخاصة إلى الارتباط بالنخب الاقتصادية والسياسية.

الإعلام المجتمعي يقدم بديلاً ضروريًا:

  • لا تملكه الحكومات،
  • ولا تحركه المصالح التجارية،
  • بل ينطلق من خدمة المصلحة العامة.

وقد كان تأثيره الأقوى محليًا؛ إذ ضخّم أصوات النساء والشباب والأقليات الدينية والعرقية والعمال المهاجرين واللاجئين—وهي فئات مهمشة في السرديات السائدة. حتى سائقي سيارات الأجرة والأشخاص ذوي الإعاقة وجدوا فيه منصة للتعبير والمطالبة بحقوقهم.

نموذج "عمان نت": دمج التقليدي بالرقمي

تجربتنا في عمان نت—التي انطلقت قبل 25 عامًا كأول إذاعة مجتمعية عبر الإنترنت في العالم العربي—تعكس قدرة الإعلام المجتمعي على التطور.

نجحنا في دمج البث الإذاعي التقليدي عبر موجة الـFM مع المنصات الرقمية، فخلقنا نموذجًا هجينًا يجمع بين الوصول الواسع والمصداقية المتجذّرة.

ورغم انتشار الإعلام الرقمي، ما تزال محطات الـFM تتمتع بثقة أكبر لدى الجمهور في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. كما يفضّل مسؤولون حكوميون وخبراء الظهور على محطات FM—even الصغيرة منها—في الوقت الذي يرفضون فيه المشاركة في برامج تبث حصريًا عبر المنصات الرقمية. وعندما تُسجَّل هذه اللقاءات وتُعاد مشاركتها عبر المنصات الرقمية، يتضاعف أثرها بدرجة كبيرة.

ما الذي تحتاجه المنطقة؟ تشريع يمكّن ولا يقيّد

لكي تزدهر وسائل الإعلام المجتمعية، تحتاج الحكومات في المنطقة إلى اعتماد أطر تنظيمية تُمكّن الأصوات المحلية بدل تقييدها.

  • تونس هي الدولة العربية الوحيدة التي شرّعت ونظّمت الإذاعات المجتمعية بشكل كامل، حيث تنشط حاليًا عشر محطات مرخصة.
  • في باقي الدول، غالبًا ما يُستخدم اسم "الإذاعة المجتمعية" لمحطات جامعية أو بلدية لا تمتلك استقلالًا تحريريًا حقيقيًا.

في الأردن، لا تزال التشريعات تمنع الجمعيات الخيرية والجهات غير الربحية من امتلاك وسائل إعلام، وهو قيد قديم يجب إصلاحه. كما تبقى رسوم الترخيص مرتفعة بشكل يعيق أي مبادرة مجتمعية ناشئة. ورغم وجود نص قانوني يسمح بإعفاء المحطات غير التجارية من الرسوم، إلا أن تطبيقه اختياري؛ وقد رُفض طلب الإعفاء الذي تقدّمنا به عام 2018 رغم توصية هيئة الإعلام والوزير المختص بالموافقة عليه.

هناك أيضًا مشكلة هيكلية في الحوكمة: إذ يخضع قطاع الإعلام بالكامل لإشراف مسؤول واحد مُعيّن حكوميًا، وهو ما يتعارض مع أفضل الممارسات الدولية. المطلوب هو مجلس إعلام مستقل ومتعدد التمثيل يخدم الصالح العام، لا أجندة جهة واحدة.

جيل جديد… لا ينتظر

في المنطقة العربية، يطالب الشباب—البارعون رقميًا والواعون سياسيًا—بالمشاركة الفاعلة في الحياة العامة. ولا يمكن للحكومات تلبية هذه المطالب عبر المزيد من القيود على وسائل التواصل الاجتماعي أو تجريم التعبير عبر الإنترنت.

الطريق الصحيح هو المشاركة الصادقة والحوار الشفاف، خصوصًا في عصرٍ جعلت فيه التكنولوجيا الرقابة شبه مستحيلة، والنقاش العام أمرًا لا مفر منه.

خمسة وعشرون عامًا… وطريق طويل أمامنا

بينما تحتفل منظمتنا بالذكرى الخامسة والعشرين لتأسيسها، نستذكر انطلاقتها التي استلهمت أفكارها من وعود ملك الأردن الجديد عام 2000. واليوم، بات راديو البلد وعمان نت نموذجًا عربيًا لكيفية مساهمة الإعلام المجتمعي في خدمة الصالح العام وتمكين الفاعلين المحليين.

يستحق الأردن التقدير لأنه سمح لنا بالنمو، لكن الطريق ما يزال طويلًا لتحقيق الرؤية التي عبّر عنها جلالته يومًا ما: "السماء هي الحد لحرية الصحافة".

 

. االكاتب مدير عام شبكة الإعلام المجتمعي، التي تدير راديو البلد وعمان نت.