بينما يتوافد القادة العرب إلى العاصمة القطرية الدوحة، تبرز الحاجة الملحة إلى التحول من الأقوال إلى الأفعال. لم تعد غزة تحتمل المزيد من الخطب الرنانة أو البيانات الصحفية المكررة أو التعبيرات الدبلوماسية عن "القلق العميق". كل ساعة تأخير تعني مزيدًا من الأرواح المهدرة، وأطفالًا يُنتشلون من تحت الأنقاض، ومجتمعًا ينهار على حافة الهاوية.
على الدول العربية أن تتجاوز مرحلة التوسل، وتنتقل إلى المطالبة الصريحة والواضحة. الرسالة إلى واشنطن وتل أبيب يجب أن تكون مباشرة: أوقفوا الحرب فورًا. لم يعد مقبولًا أن تواصل إدارة ترامب الاختباء خلف التصريحات، بينما تُحصّن إسرائيل من أي مساءلة. الكلمات لم تعد كافية. ما يهم الآن هو ما إذا كانت الدبابات ستنسحب، والأسرى سيُطلق سراحهم، والمساعدات الإنسانية ستتدفق دون قيود.
الهجوم الإسرائيلي الأخير على الدوحة، الدولة المكلفة بالوساطة، كشف زيف الرهان على الدبلوماسية الورقية. مهاجمة وسيط معتمد من جميع الأطراف، بما فيها الولايات المتحدة، لا يُعد فقط تصرفًا متهورًا، بل تخريبًا متعمدًا. التاريخ لا ينسى: ففي عام 1948، اغتال متطرفون يهود وسيط الأمم المتحدة الكونت فولك برنادوت في القدس. الإفلات من العقاب على العنف ضد دعاة السلام يُقوّض الثقة ويُطيل أمد الصراع. واليوم، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه.
الثقة في الوساطة الأمريكية تآكلت بالفعل. العالم يتذكر قصف المستشفيات، واستهداف الصحفيين، وقتل عمال الإغاثة—all بينما تلتزم واشنطن الصمت. الفلسطينيون يتذكرون أيضًا طرد دبلوماسييهم من واشنطن، ورفض منحهم تأشيرات لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة، عندما مزّقت إدارة ترامب الاتفاقيات الدولية. ما الذي يدعو للاعتقاد بأن هذه المرة ستكون مختلفة؟ لا شيء سوى الأفعال الملموسة.
في الشرق الأوسط، المصداقية أثمن من الخطاب. قد تُقلل واشنطن من شأن ذلك، لكن الثقة هي عملة السلام. بدونها، تنهار المفاوضات. هذا الدرس القاسي لا ينطبق على غزة فقط، بل على ملفات أخرى من أوكرانيا إلى العلاقات مع روسيا. كما قال رونالد ريغان: "ثقوا، ولكن تحققوا". في عهد ترامب ونتنياهو، تلاشت الثقة. ولا سبيل لاستعادتها إلا بخطوات عملية: انسحاب موثّق من غزة، وتبادل فوري للأسرى، وتدفق غير مشروط للمساعدات.
المصداقية لا تُبنى بالخطابات، بل تُكتسب بالفعل. المطلوب الآن وقف إطلاق نار قابل للتنفيذ، وانسحاب إسرائيلي موثّق، وإطلاق سراح الأسرى من الجانبين، وتشكيل إدارة مؤقتة في غزة تحت إشراف دولي، بقيادة محلية وبالتنسيق مع رام الله. يجب أن تشارك الدول العربية والقوات الدولية لضمان الأمن وإعادة الإعمار. أي شيء أقل من ذلك هو استمرار في الكلام بينما تتساقط القنابل.
الوقت لا يرحم. كل يوم إضافي من القصف يُعمّق الكارثة الإنسانية ويُقلّل من فرص السلام. يجب أن يُسمح لوكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية بالعمل بحرية، وتقديم الغذاء والدواء والمساعدات الأساسية. كل ساعة تأخير هي فشل أخلاقي وسياسي. لقد تحمل شعب غزة ما لا يُطاق.
على القادة العرب أن يتحركوا بحزم. عليهم أن يواجهوا واشنطن مباشرة، ويُبلغوها أن أي تأخير إضافي غير مقبول. وإذا فشلت الدبلوماسية، فلا بد من ضغط ملموس. قطر، التي ألمحت إلى مراجعة استثماراتها الضخمة في الولايات المتحدة، أرسلت رسالة واضحة. على الآخرين أن يحذوا حذوها. فالضغط الاقتصادي، حين يقترن بالعزيمة السياسية، أكثر فعالية من الكلمات وحدها.
نتنياهو يزدهر في ظل التأخير. يختبئ خلف مفاوضات لا تنتهي، بينما تتصاعد جرائم الحرب. لا حافز لديه للتنازل، ولا سبب لوقف العنف إلا إذا أُجبر على ذلك. لا يمكن للعالم أن يسمح لزعيم واحد بإملاء شروطه على حساب آلاف المدنيين. وإذا أرادت الولايات المتحدة الحفاظ على مصداقيتها، فعليها أن ترسل مبعوثين مفوضين لضمان وقف إطلاق النار، والتحقق من الالتزام، ومحاسبة إسرائيل على الانتهاكات.
الحرب على غزة ليست مجرد أزمة سياسية. إنها كارثة إنسانية، وأزمة أخلاقية، وتحدٍّ للضمير العالمي. إنهاؤها ليس خيارًا، بل ضرورة ملحّة. المطلوب الآن: وقف القصف، وسحب القوات، وتبادل الأسرى، وتشكيل إدارة مؤقتة ذات مصداقية. الكلمات وحدها، مهما بلغت بلاغتها، لن تُنقذ حياة واحدة.
لقد أثبت التاريخ أن الإفلات من العقاب يُغذّي دوامات العنف. هذه لحظة فارقة لكسر تلك الدوامة، ولإثبات أن الحسم السياسي يمكنه أن يمنع المزيد من الدماء.
*صحفي فلسطيني ومدير عام شبكة الإعلام المجتمعي












































