قراءة موضوعاتيّة في المجموعة القصصيّة الموسومة بـ ذات مساء في المدينة للقاص محمّد خليل
يُمثّلُ محمّد خليل أحد كتّاب القصّة القصيرة الأردنيّة المغمورين، ينتمي إلى جيلِ الثّمانينيّات، ومع ذلك؛ إلّا أنّ سيرته الذّاتيّة لم تحظَ بحيِّزٍ من التّرجمةِ والاهتمامِ في كتابِ معجمِ الأدباءِ الأردنيين، وهذا راجعٌ بطبيعةِ الحالِ إلى مجموعته القصصيّة الوحيدة والموسومة بـ "ذات مساء في المدينة".
في ضوءِ ذلك، يُعدّ محمّد خليل أقل الأدباء إنتاجًا بالمقارنة مع غيره، على أنّ الجديرَ بالذكرِ أنّ مجموعته القصصيّة الثّانية، الموسومة بـ "ما يشبه الطّين"، صدرت بعد ثلاثين سنة.
ذات مساء في المدينة
خرجتْ مجموعة "ذات مساء في المدينة" القصصيّة إلى النّورِ سنة 1986م، وتقع في خمس وثمانين صفحة، وتحتوي على عشرِ قصص، وقد صدرتْ عن مطبعةِ الأمان.
ويحمل عنوان هذه المجموعة قدرًا من التّشويقِ، إلى جانبِ أنّهُ يُسهم في توقّعِ الحدثِ، حتّى ليتولّد في نفسِ القارئ لهُ إحساسٌ بالسّوداوية والتّشاؤم، ولعلّ هذا ما يُمكن للقارئ أن يلمسهُ.
القراءة الموضوعاتيّة
إنّ القراءةَ الموضوعاتيّة هي القراءةُ الّتي تتبع الموضوعة الظّاهرة في النّصّ الأدبيّ، زيادةً على أنّها تتناول النّصّ الأدبيّ من الدّاخلِ، وتهدف إلى استقراءِ الظاهرة الأساسيّة المتكررة في النّصّ، بحيث يُمكننا تعريف الموضوعاتيّة بالصّورةِ الملحّة والموجودة في عملِ كاتبٍ ما(1)، هذا وتنطلق من خلالِ "حصرِ العناصر الّتي تتكرر بكثرة وبشكلٍ لافتٍ في نسيجِ العملِ الأدبيّ"(2). لهذا الاعتبار، يُمكن للقارئ الوقوف على مجموعةِ محمّد خليل القصصيّة، منطلقًا من الموضوعِ الرّئيس، ُكلّ على حدةٍ أو مُجتمعة، لتشكّل المدينة مرتكزًا ضوئيًا، ولكن لا بدّ لنا من التّنويهِ إلى أنّ منطقَ المقالِ يُملي على الباحثِ والنّاقدِ الاختزال والاختصار، ذلك بقصدِ الذّهابِ إلى الأساسِ الذي يخدم فكرته.
تبعًا للسياقِ القصصيّ، تتناول المجموعة القصصيّة واحدًا من الموضوعاتِ الّتي سبق طرحها في عددٍ من الدّراسات، وهو موضوعُ المدينةِ، على أنّ الإشارةَ إلى ظاهرةِ المدينةِ في القصّةِ من وجهةِ نظرِ الباحثِ والنّاقد، لا يمنع من أن تدفعنا وراء إغراءِ الموضوعِ، ذلك أننا لا نشكّ بأنّ محمّد خليل كان معنيًا بالتّجربةِ واستدعائها مع واقعٍ خَبِرَهُ وألَمّ بتفاصيله.
وعلى هذا، تدورُ قصّة "البحر" حول رجل يزور مدينة بعيدًا عن وطنه، وهي المرّةُ الأولى الّتي يلتقي فيها امرأة، ففي اللحظةِ الأولى الّتي هبط فيها المدينة، سألَ عن البحرِ نساءً أقرب إلى العُريّ منهنّ إلى الحشمةِ، وفي أثناءِ عودته من المدينةِ شاهد شرطيًا يسحبُ حزامه العريض ويهوي به على رأسِ الرّجل، في الباصِ يتذكّر ليلة اعتقاله لتشابه الأسماء.
وبذلك، فإنّ البحرَ إشارةٌ إلى الوطنِ المسلوب، والشّرطي دلالة على القمع والاضطهاد، يقمع الأحلام، قصّة تدين القمع، تجسّد فكرة الانسحاب من الواقعِ والحياة، والإنسان في ظلّ ذلك، متهم في كلِّ حالته.
و"السّجين 83"، قصّة تجسّد المقاومة والتّحدي والرّفض، تتحدّث عن سجين له رقم 83 بدلاً من اسمه؛ في إشارةٍ رمزيّةٍ إلى غيابِ لقيمةِ الإنسان، حيثُ صوتُ السّلاسلِ ممزوج بصوتِ الحارسِ، أيقظ السّجين من أوهامه رجلٌ أبيضُ الوجهِ، أشقرُ الشّعرِ؛ في إشارةٍ إلى أنّ الرّجل غريبٌ ومحتل، فاجأهُ الضّابط بكفّ قائلاً: عائلة ثوريّة حقيرة. يسألهُ عن علاقته بماجدة شرارة الّتي هي بالأصلِ زوجة السّجين، وقد تعرّف عليها في إحدى المظاهرات، وقد أعجبهُ ثورتها. قال الضّابط كاشفًا عن مدى رغبته الكامنة في وضعِ معارضيه بحالةٍ من الإذلالِ والانسحاق: زوجتك الفاجرة، كانتْ تقودُ عملاً تخريبيًا. قصّة تكشف عن شكلٍ من أشكالِ الصّراعِ مع السّلطةِ بمفهومها الواسع الذي يجاوز السّلطة السّياسيّة.
أمّا "التّجاوز"، فقصّة رمزيّة، تنهضُ على السّردِ بضميرِ المتكلّم، ويحتل الجدارُ الحجريّ حيزًا واضحًا في صوتِ السّارد، ويمثل رمزًا للقمعِ والاضطهاد، وإنّ أهمّ ما يتسم به هذا المكان الرّتابة والجمود. الجدارُ كان فاصلاً بين الشّخصيّةِ السّاردة والمحبوبة أماني، وعلى هذا يغدو المكان حيزًا مغلقًا يصادر الحرّية ومرتكزًا دلاليًا ينطلق منه وعي السّارد.
يرقب من مكانه الذي يجلس فيه بعض الصبية يتسلقون جدارًا عاليًا ويصرون على تسلقه؛ دلالة على الرّفضِ والتّحدي والمقاومة.
محبوبته وراء الجدار، ليستْ كباقي النّساء، وُلِدَا في الطّينِ والصّفيح، ولَعِبَا في الأزقةِ الضّيقة، ودخلا المدرسة وتخرّجا من المعهدِ معًا، تعشقهُ حدّ الخرافة، ويعشقها حدّ العبادة. من هنا، تمثّل المحبوبةُ أماني الوطن المغتصب في إشارةٍ إلى فلسطين. وفي اسمِ المحبوبة (أماني)، وهو جمع أُمنية، نقفُ دلالة توق السّارد للتحرر والانعتاق من المحتل الغاشم، كونه واحدًا من المهجّرين.
عندما أوقفوهُ أول مرّة بكتْ كثيرًا، أوقفوهُ بتهمةِ التّحريضِ؛ تحريض الطّلابِ على التّظاهرِ ضدّ الجدار. وعلى ضوءِ القراءةِ الموضوعاتيّة، يغدو القمعُ والاعتقالُ إلى جانبِ الرّفض والتّحدي سمة بارزة وظاهرة في القصّةِ، كما يُمكن النّظر في اختيارِ اسم أماني الذي يحمل دلالة ظاهرة باعثة على الأمل.
تتمحور قصّة "كرنفال النّجوم" حول تغوّل السّلطة الحاكمة، والاعتقال، والقمع، وتحمل دلالات تُشير من بعيدٍ إلى الأملِ والتّطلعِ إلى الحرّية، وقد كشفتْ ما تطمحهُ الشّخصيّة من طموحات، في ما يُشير إلى أنّ ذلك الطّموح ظلّ حلمًا. قصّة تسلّط الضّوء على شخصيّةِ حسّان، رجلٌ مشاغب، يحبّ النّاس، والمقاهي، والشّوارع، والمرأة، حلمهُ أن يرى علمًا يُرفرفُ في سماواتِ هذي البلاد الممتدة من البحرِ إلى البحر، ومرّة أثملهُ الوقت، فصرّح أمام أحدهم وتلفّظ بألفاظٍ عن الفقراء، وأبناء السّبيل، والثّورة. في آخرِ الليلِ داهمَ الجنديُّ منزلهُ، وعندما تساءلَ عن السّببِ، اتّهم بإثارةِ الشّغبِ، وإزعاج السّلطات، فما كان من الأخيرِ إلّا أنّ قدّمهُ للمحكمةِ، وقد حكمتْ عليه بستِ سنوات. وفقًا لهذا التصور، فإنّ السّارد بهذا يعرّي السّلطة ويكشف ما يمور في داخلها.
أمّا قصّة "عذابات"، فتتحدّث عن رجلٍ، إذ إنّهُ للمرّة الأولى يطرقُ باب طبيب؛ رغم الموقف المُعادي الّذي يقفهُ من الأطّباءِ منذُ كان صغيرًا، أحسّ بألمٍ في معدته، وقد خمّن الطّبيبُ باحتمالِ إصابته بالقرحةِ، جرّاء الكبت الدّاخليّ. وإذا ما انتقلنا إلى نهايةِ القصّة سنجدُ أنّ سببَ القرحةِ نتيجة سماعه الأخبار من المذياعِ عن الأوضاعِ الّتي آلتْ إليها حال الأمّة العربيّة.
وقصّة "أحزان فاطمة" ذات بعد اجتماعيّ، تتناول جانبًا من جوانب المشاكل الاجتماعيّة في القريةِ والمدينة؛ الأرملة وما تتعرّض لهُ من تحرّش في المدينةِ، حيثُ يقدّم السّاردُ نموذجًا للمرأةِ الّتي تضطرها ظروفها الاقتصاديّة والمعيشيّة للبحثِ عن عملٍ كخادمةٍ في بيوتِ المدينة. القصّةُ تأخذ مسارين: القرية/ المدينة، ويندرج تحت كلّ مسارٍ منهما العديد من المسمّيات الّتي تُعدّ تنويعًا على كلّ دال، ويُمكن جدولة ذلك على النّحوِ التّالي: القرية: الفقر، الصّدق، الفضيلة، في حين المدينة: الترف، الكذب، الرذيلة.
يموت زوجها، تصرخُ فاطمة، وتسقط على الأرضِ، تطرقُ البيوتَ سائلة عن لقمةِ عيشٍ لأولادها، تذهبُ إلى المدينةِ للعملِ في البيوتِ، تطرقُ أحدَ البيوتِ، يخرج شابٌ طويلٌ، ويأمرها بالدّخولِ، يطوّق خاصرتها بيديه، تنفرُ منهُ، تبتعدُ، يصفعها بكفّه، تخرجُ فاطمة وقد امتلأتْ عيناها دمعًا، عائدةً إلى القرية.
من هنا، كشفت القصّة البنية الفكريّة والنّفسيّة الّتي تحكم طبيعةَ العلاقة بين القريةِ والمدينة، وبذلك، يُعرّي الكاتبُ المدينة، ولعلّ ذلك ما يُشير إلى تشوّه إنسانيّة الإنسان داخل المدينة، ولا عجب أنّ تتحوّل على مدارِ القصّةِ إلى عالمٍ مُتخمٍ بالوضاعةِ والدّناسةِ والدّناءة، زيادةً على ذلك، تغدو معادلًا لشذوذِ العالمِ وظلاميته، وشاهدًا على تحوّله بعيدًا عن القيمِ الإنسانيّة والأخلاقية.
يشكّل الاغترابُ في قصّةِ "رحيل الأصدقاء" الموضوعَ الرّئيس، حيثُ غادرَ الأصدقاءُ في عتمةِ الليل، وقد كانوا يملؤون فضاءَ المدينةِ ضجيجًا، وبقي وحيدًا بالرّغمِ من الحشودِ، كما شكّلتْ المدينةُ في القصّةِ بالنّسبةِ للشخصيّةِ مكانًا لإفراغِ رغباتِ النّفسِ، تتمثّل بالسّلوكاتِ الخارجة عن السّائدِ، حيث التّسكعُ في الطّرقاتِ، والارتيادُ إلى الحانة، وبناءً على التحليلِ الرّمزي، يمثّل الشّرب والخمرة تجسيدًا للهروبِ من واقعِ الوحدةِ والاغترابِ إلى واقعٍ يُشعرهُ بكينونته ووجوده.
واستكمالًا لقصديّة جلاء الموضوع في المجموعةِ القصصيّة، فقصّة "الذّبابة" الّتي لا تخلو من سخرية ورمزيّة، تُشكّل حدثُ مطاردة الذّبابة أهمّ الأحداث الّتي شهدتها القصّة، لتؤشّر إلى ضحالةِ التّفكيرِ، وهي تعبيرٌ قوي عن الحالةِ الّتي تشغل بال تفكيرِ الشّخصيّة، حيثُ تتحدث القصّةُ عن كاتبٍ تؤرقه الكتابة، فيهرب صوب الشّوارع، والمقاهي، والأزقة، يستحضر الأشياءَ التي رآها في السّوقِ هذا المساء، تتجمدُ الكلمات. ذبابةٌ سوداء كبيرة تشاغب قرب الضّوءِ، ينهض، يُطاردها، وتفرّ، حاول أن يضربها، ينكسر الضّوء، وتفرّ على التّلفازِ يضربها وينكسر التّلفاز، وتفرّ فوق المرآةِ يُطاردها ويكسر المرآة، ويكسر رأس ابنه إلى أنْ فرّت صوب الباب وخرجتْ.
والمتأمّل في قصّةِ "ذات مساء في المدينة"، يكشفُ اغترابَ الشّخصيّةِ في مدينةٍ تضج بالنّاسِ، إذ تتمحوّر القصّةُ حول رجلٍ مخبول، ينتقلُ من شارعٍ إلى شارع، ومن زقاقٍ إلى آخر، كان يدرسُ في الخارجِ، وقد تعرّض لأزمةٍ نفسيّةٍ حادّة، كانَ يعشق امرأةً حدّ الجنون، وعندما عاد قالوا لهُ بأنّها قتلتْ، تخرجُ امرأة من حقيبتها كاميرا صغيرة، تقفُ أمامهُ، وعندما ومضَ ضوؤها انتفختْ أوداجهُ، قائلًا: أنا لا أحبّ الإنجليز، وفي ذلك ما يُشير إلى حالةِ الرّفض، في محاولةِ تعريةِ واقعِ المُحتل والمستعمر.
وينهض الضّميرُ السّاردُ في قصّةِ "الطريق" بمهمّةِ رسمِ صورةٍ مخيفة للمكانِ، حيثُ الجنودُ، والسّجنُ، عبر رحلةٍ في ذاكرةِ السّارد، وباختصارٍ، قصّة تعبّر عن الإنسانِ الفلسطيني ومقاومته للمحتل، هذا وتدور أحداثها في مدينة غزّة.
وبعدُ، فلا بدّ لي، بعد هذه القراءة، من خاتمةٍ، حيثُ يتضح من خلالِ القراءة الموضوعاتيّة، أنّ موضوعَ المدينة بأشيائها المُتعددة وما يشيع في داخلها من الاغترابِ والوحدةِ والحزنِ والقمعِ والاعتقالِ والخوفِ والشّذوذ الأخلاقيّ، هي مادةُ المجموعة. ومن الجديرِ بالملاحظةِ بأنّ نشير إلى تراجع الحوار؛ بسببِ اعتمادِ المؤلفِ السّارد العليم، كما المساحة الّتي يشغلها في المجموعةِ أقل من مساحةِ السّردِ، وهذا ـ في رأيي ـ ما ينسجم تمامًا مع تقنيةِ السّرد بضميرِ المتكلم.
• باحث وناقد مستقل، حاصل على درجة الدّكتوراه في الأدب والنّقد الحديث.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع
(1) انظر، سعيد علوش: النّقد الموضوعاتي، ط1 ـ 1989م، شركة بابل للطّباعة والنّشر والتّوزيع، ص 62.
(2) جميل حمداوي: المقاربة الموضوعاتيّة في النّقد الأدبيّ، مجلة الفيصل، ع 37، 1998م، ص 85.
(3) محمّد خليل: ذات مساء في المدينة، ط1 ـ 1986م، مطبعة الأمان، عمّان.