قراءة جديدة في ديوان أسفل النّهر للشّاعرة مها العتوم

(إنتاج الدّلالة تشكّلاتها وتحوّلاتها)
الرابط المختصر

مها العتوم، شاعرةٌ وأكاديميّةٌ، حاصلة على درجة الدّكتوراه في الأدب والنّقد الحديث، وعضوة في رابطة الكتّاب الأردنيين، شاركت في العديد من مهرجانات الشّعر المحليّة والعربيّة، وأعمالها الشّعريّة تندرج تحت طائلة شعر التّفعيلة كغيرها من شاعرات العصر الحديث وشعرائه. من أعمالها الشّعريّة: دوائر الطين 1999م، نصفها ليلك 2006م، وأُشبهُ أحلامَها 2010م، وأسفل النّهر 2013م، وغرف علويّة 2019م(1). 

أودّ في البداية أن أشير إلى أنّ كثيرًا ما تقام المؤتمرات والنّدوات والبحوث، وتثار أسئلةٌ حول طبيعة الأدب النّسوي، من أهمّها: ما مفهوم الأدب النّسوي، وهل المقصود به أدب النّساء، وهل هو الأدب الذي تكتبه النّساء، وهل هو الأدب الذي يعنى بشؤون المرأة وهمومها ويعالج قضاياها ومشاكلها؟ 

ليس من الهيّن الإجابة المباشرة والجازمة عن هذه الأسئلة نفيًا أو إثباتًا، والسّبب ببساطةٍ أنّ الأدبَ يقدّم مواضيع الحياة وقضاياها بصورة كليّة. وباختصارٍ، فإن تقسيم الأدب شعرًا كان أو نثرًا تبعًا لثنائيّة الجنس البيولوجي، يعدُّ ضربًا من العبث والفوضى. 

على ذلك، فإنّ الأدب النّسوي بوصفه مناظرًا للأدب الذّكوري راجعٌ بطبيعةِ الحالِ إلى سذاجة فهم أولاً. ثانيًا، إنّ الجنس البشري لا يحدد على ضوئه القيمة الإبداعيّة، وإذا كان المؤيدون باستنتاجهم المغلوط طبعًا يقولون: بأنّ المرأة تتمتّع بخصوصيّة في الكتابة عن المرأة أكثر من الرّجل، فإنّ الرّجل في المقابل، في شواهد كثيرة يفوق كثيرًا في التّعبير عن المرأة وقضاياها وهمومها ومشاكلها، ويكفينا للتّدليل أن ننظر في نصوص نزار قبّاني الشّعريّة وغيره، مما يقر باستحالة التقسيم والتّمييز والفصل.

أسفل النّهر

يعدّ ديوان أسفل النّهر امتدادًا للدّواوين الشّعرية السّابقة، ويتوزّع على أربعة وسبعين نصًّا شعريًّا، وقد جاء تصميمُ غلاف الدّيوان بألوانَ زاهيةٍ ويغلب عليه اللون الأزرق، موفقًا ومتناسبًا مع العنوان، ورغم أنّ العنوان من الوهلة الأولى لا يجذب القارئ ولا يغويه كثيرًا إلى القراءة، إلّا أنّه في ظنّي يحمل بعدًا دلاليًّا ونفسيًّا وجماليًّا، وبالتّأويلِ، فإنّ النّهر يدلّ على البذل والعطاء والنّماء والحياة. كما يشير ظرف المكان (أسفل) إلى مخبوءٍ، ويحمل ضمنًا مسكوتًا عنه، وبهذا، فإنّ العنوان عميقُ الدّلالةِ وثريُّ الإيحاء، قائمٌ على التّحفيز في كشف ما هو غير ظاهر، ليستثير القارئ ويشعل نار مخيّلته. 

على أساس ما تقدّم، تحاول القراءة أن تكشف ما تحت النّصوص من رؤية في ديوان أسفل النّهر، وتوضيح دلالاتها وتشكّلاتها؛ بهدف فهم وضع الذّات الشّاعرة النّفسيّة القابعة في الدّلالة الشّعريّة. بناءً على ما سبق، فإنّ الشّاعرة مها العتوم تستهلّ ديوانها مقتَبَسًا من كتاب "نساء يركضن مع الذّئاب" للمؤلِّفة الأمريكيّة  كلاريسا بنكولا، ويشار إلى أنّ المؤلّفة متخصصة بالمثيولوجيا والأساطير، خصوصًا المتعلّقة بالمرأة، رابطةً في كتابها بين المثيولوجيا القديمة وعلم النّفس الحديث. والكتاب يحلل ويناقش من خلال نماذج من حكايات شعبيّة وأساطير معاناة المرأة، والقهر الواقع عليها اجتماعيًّا وثقافيًّا عبر التّاريخ. على ضوء ذلك، نستنتج، بأنّ عنوان الدّيوان كما يتضح مأخوذ من الكتاب السّالف الذّكر، حيث أشارت الشّاعرة من خلال المقتبس الوارد، إلى تسميات وصور متعددة للمرأة في الموروث الإنساني، منها: النّهر أسفل النهر، والضّوء الآتي من جهنم، وأنثى الغابات، والمرأة العنكبوت، والمقدّسة، وصاحبة البصيرة الثّاقبة، وغيرها من التّسميات.

تأسيسًا على ذلك، فإنّ صوت المرأة يحضر على مدار نصوص مها العتوم الشّعريّة لينهض على ثنائيّات متعددة، أبرزها ثنائية الحلم والواقع، وهذا تمامًا ما أشارت إليه في إضاءة الدّيوان، حيث تقول:

بِالقَلِيْلِ القَلِيْلِ مِنْ النّوْمِ

أَعْبُرُ مِنْ حُلُمٍ صَوْبَ آخَر

وَأَنْسَىَ كَثِيْرًا مِنْ الصّحوِ بَيْنَهما

سَوْفَ أنْسَىَ يَدَي بِنتوءاتِها الخَمس

إنّ يَدي ما تُخَرْبشُ فَوْقَ الجِدَار

حَيَاتِي ذَاكِرَةٌ

وَالكِتَابةُ نِسْيَانُها.

هناك تلاعبٌ بالدّلالة والمقصدية في النّصوص الشّعريّة بشكلٍ مخاتلٍ جدًّا، لتنشطر الذّات الشّاعرة إلى شطرين وضميرين؛ بحيث ينوب ضمير المخاطب مناب الذّات المتكلّمة، وكثيرًا ما تكون الدّلالة موغلة بالتّخفي، لتواجه خصمها بالتّخفي؛ نظرًا لمخاطر مواجهة الآخر وحتمية الخسارة، حيث تقول في نصّ شعري موسوم بـ "كوني تكوني":

كُوْنِي كما شاءت الرّيح

صوتًا يُدّوم ثمّ يَضِيْع

فَمَا شَالتْ الرّيح 

يَبْقَى،

كُوْنِي تَكُونِي

كَمَا شَاءتْ الرّيح غُصنًا طليقًا

يُلوّحُ للقَادِمِيْنَ وَللذّاهِبِيْنَ.

بالرّغم من أنّ الشّاعرة تستعمل التّعبير غير مباشر، إلّا أنّه يعدّ عنصرًا فاعلاً في إنتاج الدّلالة، بحيث يترك الباب مواربًا على مساحةٍ كبيرةٍ من تعدد الاحتمالات، كما أنّ القارئ يستطيع أن يستخلص مضامين النّصوص الشّعريّة بحيث لا تخرج من دائرة الحبّ، والوحدة، والحزن، وتشتغل الذّات الشّاعرة حيزًا واسعًا في نصوص مها العتوم الشّعريّة، إذ تقول في نصّ "نوافذ":

لأنّ اتّسَاعَ النّوافذِ

ضَيّقَ قَلْبِي

وَأرخى سَتائِرهُ الصّفرَ

مِثل خَرِيفْ.

على هذا النّحو، تتشكّل الدّلالة الشّعريّة بالإضافةِ إلى ذلك من خلال ارتداد الذّات الشّاعرة إلى نفسها، في التّعبير عن حالة الحزن، والوحدة، والاغتراب، والفقد، حيث تقول في قصيدة "خُطى":

أتَعثّرُ مِثْلَ خُطَاي

وَأحْرصُ ألّا أرَى 

فِي طَرِيقي الحَصَى

فَالحصى مِن تُراب، وقلبي غبارْ. 

تعتمد الدّلالة الشّعريّة في نصوص مها العتوم على النّسق المضمر، ويقوم موضوع الحبّ الكظيم كأساسٍ شعري إبداعي جمالي لديها، لهذا، نجدها تتساءل في قصيدة ما يفعل الحبّ، حيث صوت الحبّ يقارع صوت المعاناة النّفسيّة القهريّة، تقول:

أتعرفُ ما يفعلُ الحبّ بالعطر؟

يجعلهُ يستردُّ الحديقةْ

وتعرفُ ما يفعل الحبّ بالورد؟

يُقطّر ألوانهُ في الفَراشاتِ

لا فرقَ بين الفراشةِ والوردِ

في الحبّ.

وعلى مستوى الرّغبة في الحبّ الذي لم يعد مجال لنفي وجوده في نصوص مها العتوم الشّعريّة، فإنّ قصيدة "تحديق" من ناحيةِ الدّلالةِ تعبّر عن حالةِ الخيبةِ في الوصال، فالنّوم يتحوّل من دلالته المباشرة إلى دلالة أكثر عمقًا واتساعًا؛ ليدلّ النّوم على تعويضٍ نفسي ومعادل موضوعي عن حالة فشل اللقاء، فالآخر/ الرّجل من منطوق النّصّ يتحوّل إلى كائن شبحي لا وجود له، في المقابل، تظهر الذّات الشّاعرة القابعة في النّص محرومة لا تمتلك  سوى أحلامها وتخيّلاتها، تقول:

أحدّقُ في النّومِ

لَو كُنْتَ لِي

لنقعتُكَ في الشّمسِ مِثْلِي

لتصفرّ من شدّةِ الصّحوِ

مِثلي

أحدّقُ في الحبّ

لَو كَانَ لِي

ويحدّقُ بِي.

وفقًا لذلك، تنتجُ مها العتوم الدّلالة الشّعريّة في قصيدة أسفل النّهر انطلاقًا من الصّورة الخياليّة الرّامزة، وتتشكّل وفق إطار الانزياح الأسلوبي الجمالي لتكشف القصيدة عن مدى انفصال الذّات عن الواقع، تقول:

أسفل النّهر

قَد تجدينَ سماءً تخصّكِ وَحدكِ

فاكترثِي بالنّهوض إليها

ضعِي قمرًا في ثِيابكِ

ثمّ اعصري 

مَا تبللَ مِنها ومنكِ.

عطفًا على ذلك، تصهل الدّلالة بالجوع والعطش العاطفي، في قصيدة اسقني، ولعلّ دراسة دلاليّة لهذه القصيدة تحديدًا ستكشف بالتّأكيد عن حجم الحرمان والاغتراب الواقعي والهوّة الفاصلة بين الذّات الشّاعرة والآخر، حيث  تقول:

اسقني

مِثْلُ جِذْرٍ قَدِيْمٍ قَدِيمْ

سَمَاءً بأكملها

لترقَّ العُروقُ

وتنضجَ أوردة النّايِ

حتّى يهبَّ الفراشُ

من الغصنِ حيًّا

وحتّى تصيرَ حريرًا

عيونُ القصبْ

وارونِي

مِثْلَ رِيْحَانَةٍ

رُوحُها الماءْ

ردّ لِي الروحَ

حتّى أردّ لكَ العِطر 

مُبتهجًا

مُفلتًا

مِنْ قُيُودِ الخَشَبْ(2).

 

خلاصة القول: إنّ الدّلالة الشّعريّة في نصوص مها العتوم تتشكّل من خلال الاعتماد على النّسق المضمر، القائم على التّحفيز والتّخييل استنادًا إلى الانزياح الأسلوبي الجمالي الإبداعي، والنّاظر في النّصوص الشّعريّة سرعان ما يدرك أنّ الدّلالة الشّعريّة معبّرة عن الذات الشّاعرة، انطلاقًا من ثلاثية المرأة والحبّ والحلم، لتشفّ عن ذات مفعمة بالعذوبة والرّقة والجمال، كما يعدّ حضور المرأة الخياليّة في نصوص مها العتوم رغم الإحساس بالحزن، والحرمان، والفقد، والشّعور القهري النّفسي، محركًا فاعلًا في إنتاج الدّلالة، لهذا، تحرص أن تؤطر قصيدتها بسياجٍ من الصّمت لا تخترقه أي قوة. وبالمحصّلة، فإنّ ديوان أسفل النّهر للشّاعرة مها العتوم، تتضح فيه مقدرة الشّاعرة في التّعبير الفنّي الدّلالي، كما أنّ النّصوص المطروحة محفزّة على القراءة أكثر من مرّة، ونظرًا لمحدودية مساحة المقال، نكتفي بهذا القدر من الإضاءة والقراءة، ويظلّ السّؤال قائمًا: ماذا لو كان اسم الشّاعرة مجهولًا لدى القارئ، فهل سيتمكّن من تحديد جنس كاتب النّصوص الشّعريّة؟ 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

● إحالات

(1) انظر، معجم الأدباء الأردنيين في العصر الحديث، ط1 ـ 2014م، منشورات وزارة الثّقافة الأردنيّة، ص 294.

(2) أسفل النّهر: مها العتوم، منشورات وزارة الثقافة الأردنيّة، 2013م، عمّان.

 

أحمد البزور، مواليد الزّرقاء، سنة ١٩٩٠، حاصلٌ على درجة الدّكتوراه في الأدب والنّقد الحديث من الجامعة الأردنيّة، وعضو في الاتّحاد الدّولي للغة العربيّة، ولديه العديد من الأبحاث المنشورة في مجّلات محليّة وعربيّة محكّمة، وكتب عددًا من المقالات والمراجعات عن الأدب والنّقد في الصّحف والمواقع الإلكترونيّة المتخصصة.