الشيخة مدللة، رحلتي بين الخرافة والطرافة

الرابط المختصر

      كلما سمعت أو قرأت عن عراف أو دجال ممن يدعون المعالجة بالذكر أو الأعشاب أو السحر… تقفز إلى ذهني لوحتان بطلتهما الشيخة مدللة رحمها الله إن كانت ميتة، ورحمنا الله منها -إن كانت حيّةً- ومن زميلاتها وزملائها محترفي الدجل ومدعيّ شفاء الأمراض بلا دواء أو علاج معرفي.

 

******************

اللوحة الأولى:

يظهر فيها أبي ببزته العسكرية حينما كان ضابطاً في الدفاع المدني في أواسط السبعينيات وخال والدتي رحمه الله بنظاراته الكبيرة وتقاسيم وجهه المريحة التي يتوسطها شارب لطالما أسعفني -بما تبقى لدي في حينها من بقايا نظر- في تتبع حركات وجهه وهو يتحدث؛ وبيده سيجارة [غولديستار]، ويتحدث إلى بضع رجال من العائلة- لا أعرف معظمهم- وأمي تضع فناجين القهوة أمامهم، بينما هم منهمكون بالتفكير والتدخين:

 “يعني لو أخذناه عندها ممكن تجيب نتيجة؟”، “يا سلام، أكيد، أنا بعرف ابن أخته لأبو سميح تبع الهاشمي، وأحمد سرحان شريك أبو خالد ونورة العبدة وخليل عبد الرحمن تبع عجّور.. الله وكيلك إشي عنده فشل كلوي وأشي سكري وأشي عنده الله يعافينا المرض هظاك، وراحولها، وسبحان الله، كم هواي بالمصلية وشوية سور قرآن روحوا من عندها على إجريهم!”، تنفتح الأعين متبادلةً النظرات في دهشة الله يعلم تلقائيتها.. ثم تنطلق موجة من الصفير الخافت الطويل وعبارات الإعجاب والدهشة “لا وكمان خليل عبد الرحمن عرسه الأسبوع الجاي!”، ترتج الصالة بضحكات متداخلة غير متآلفة، متضاربةً في الحدة والطول والنغمات: “معقول! طيب ماهو متزوج؟ والا حلوان الشفاء؟ هاهاهاهاهاهاها”، تنتهي الهقها تدريجياً بسعلات مفعمة بصوت البلغم المتحشرج في صدور البعض: “بسم الله… يا ساتر… هاتو ماي…”، وما أن يستعيد الساعلون توازنهم حتى تتشابك أيدي المدخنين للمرة الخمسين أو المائة.. في الهواء وقد ارتفعت فوق طاولة المنتصف بمقدار ذراع [جولدستار، فليدلفيا، توب-توينتي، ريم….] ويتبارى أصحابها لنيل شرف الرش على الآخرين من علبته: “والله غير من هون… أبدا من عندي… طلاق غير من هالباكيت… بالحرام ما بصير… بارك الله فيك بس صدقني ما بغيّر…”، وما أن تهدأ معركة تبارز علب السجائر في الهواء؛ حتى يختلط صوت القداحة البلاستيكية بالكبريت ويبدأ نفث النفس الأول من السجارة يتوزع من أول مُشعِل إلى الذي يليه وهكذا ثم يعود الجميع لاستئناف الحديث عن الشيخة مدللة والكل منتظر قصةً جديدةً مثيرة.

 ما أن يكاد يبلغ اليأس المنتظرين المحدقين في الغيمة الرمادية المنبعثة من نفث دخان سجائرهم؛ حتى يخرج صوت رفيع هادئ من الكرسي في زاوية الصالة لشاب ثلاثيني يرافق أبيه وقد غلبه النعاس من جلسة كبار العائلة المملة والجذابة في آن واحد والتي حفظ موضوعاتها وترتيب أحداثها عن ظهر قلب: يقول: “والله… في واحد… هو يعني صديق لمدرس معنا في المدرسة… بقول إنه كان عنده رماتيزم في إجريه وكان يدوب قادر يمشي، وراح للشيخة وما شاء الله استفاد”، وأمام هذه القصة الخالية من التحابيش والمروية بصوت رفيع يفتقر للحماسة ، لا يحظى الشاب المسكين سوى بهمهمات وهزّة رأس من البعض دون صفير أو سبحلة  أو حوقلة.. ليتبرع أحد شيفات التبهير بإضافة الإثارة والبهارات الضرورية للقصة، لتبقى الشيخة كما أرادوها صانعة المعجزات ومحطمة المستحيل وقاطعة أرزاق الأطباء… فيسأل: “طبعا أكيد لف على دكاترة كثير قبل ما يروح، صح؟”، وبنبرة أنشط قليلا ولكنها أكثر ربكةً وتوتراً تدل على صدق حدسي في حينها أن الشاب المسكين اخترع القصة في لحظتها ليطري الجو ويدفش مع الكبار بكلمتين خفيفتين: “كاييييف؟ آه طبعا أكيد”. وبالقرب من باب المنزل الذي أبقي مفتوحا، جلس 5 شبان مهمتهم تلبية مطالب كبار الجلسة “ناول عمّك مي.. دلّ الحج على الحمام.. قوم خليهم يعملوا شاي.. نط وتناول بكيت ريم عشان عمّك أبو فاروق بدناش إياه يغير ويغضب علينا! هاهاهاهاهاها!”. في وقت الراحة، كان هؤلاء الشبان يسترقون لحظات انشغال الكبار في حديثهم عن الشيخة وبلوغهم مبلغ من الحماسة يمكنهم معه التغامز والتلامز عليها وعلىالأساطير التي تروى عنها. إذ ينظرون بأدب للكبار ولكنهم كلما تيسّر لهم يهمسون في أذن بعضهم البعض: “شيخة شو وحكي فاضي شو… يا زلمة دور عليها بتلاقيها بتدهنهم بزيت سيارات وبتعطيهم أسبرو… ولك اسكت… عمك أبو العبد بيقلك في واحد سبها في غيابها سلطت عليه جني ركبه… عن جد؟ طيب يلعن اللي. . . وكمان. . .  ولو هي من ظهر زلمة تورجيني حالها هي والجني تبعها….”. آه لو سمع الكبار حديث الصغار! لكانت معركة داحس والغبراء.

 بينما وتيرة الحديث تعلو قليلاً وكثيراً ما تخفت، ينظر أحد كبار الحاضرين إلى الهاتف الأرضي الرمادي ذي القرص والمعلق على الحائط.. ثم إلى ساعته: “صارلنا طالبين مكالمة الكويت 4 ساعات، ظايل ساعة، شو رأيكم، نحكيلهم يجيبوه وخلص؟”، تقترح أمي: “طيب يا جماعة ما هو ضايل لإجازة الصيف شهرين، استنو وهو هيك هيك بيجي”. وبعنجهية الرجال القادة العارفين ببواطن الأمور وظاهرها، يجيب أحدهم: “بالله فُكينة من هلحكي، هاظا مرظ بخوف مش لعبة، وبلكي الزلمة صارله اشي يعني؟”.

  تمضي الساعة المتبقية على مكالمة الكويت كما مضت سابقاتها في التحسر على شباب وأولاد قريبنا المريض رحمه الله، وعلى استحضار بركات وحركات الشيخة مدللة، مع  السماح بمرور بعض المواضيع الجانبية عن جار أحدهم الشرس الذي يضرب زوجته وأولاده تحت تأثير الكحول وعن جارتنا التي كانت معروفة بالحارة بكنية "الغزاوية" التي وكزني ابنها فقمت بدوري بضربه بالكرة التي كنت للتو نفختها بمنفاخ ابن جيراننا عاصم في وسط أنفه الذي بدأ ينزف قليلا وأخذت أبكي حزينا عليه لائما لنفسي الشريرة، ثم ينقذني الهاتف برنته الكئيبة من تسلط الأنظار علي وعلى حكاياتي السخيفة، يتحدث زعيم الجلسة بأعلى درجة من درجات السلم الموسيقي “نعم نعم… مزبوط… لحظة بالله، يا ولد، أعطيني الورقة الصفرة اللي عليها الرقم… ولك مش هاي يا تيس… شفشفشفشفشف… بعينك الله يا أبو ياسر أعطيني إياها هايها جنبك على الطاولة”، وإياك أن تسأل إذا كانت جنب أبو ياسر على الطاولة فلماذا يطلب من التيس الجالس في آخر الصالة أن يعطيه إياها. المهم، يعاود الحديث معتذرا عن التأخير: “أيوا… نعم… الرقم هو… شكرا دادا…”، الكل في حالة ترقب: “شو؟ خير؟” “هيهم بيحولوني… ألووووووو! مرحبا…”، وفي كل كلمة يرتفع بصوته درجةً من درجات السلم الموسيقي حتى يبلغ [الديوان] أو [الأوكتاف] الخامس وهو يحذر أن يبعث في نفوس أهل المريض أملا كبيرا: “يعني إحنا ما بنعرف الصحيح، الناس بتقول والله أعلم”، ثم يتلقف السماعة شخص أقرب للمريض ويقول: “والله أنا بحكي خلينا نجرب ومش خسرانين”. انتهت المكالمة وتلاها دقائق من الحوقلات والحسرات والدعوات للمريض ثم فهمت أن الرأي قد استقر على أن يذهب وفد استطلاع رفيع المستوى يشرح للشيخة الحالة قبل أن تعاينها ثم يتم اتخاذ القرار المناسب، ولحسن أو لسوء حظي، اقترح أحدهم أن أرافق الوفد لعل الشيخة تنظر في أمري وتلقي علي من نفحات روحانيتها شيءً يلحم الشبكية المنفصلة أو يوقف انفصالها عند حده، أو على الأقل تصنف حالتي وتحدد لي موعداً آخر للكشف والمعاينة.

 

      ************

 اللوحة الثانية:

 حوش متوسط مكشوف تضرب الشمس أوسطه في ساعات بعد الظهر وعدد من الرجال لا يقل عن 5 من الأقارب جلسواا على مقاعد متواضعة وشكلوا نصف دائرة صغيرة وقد كنت أنا في آخر طرفها الأيمن، بينما جلست الشيخة مقابل الجميع متوسطةً طرفي نصف الدائرة وهي تستمع لوصف حالة قريبنا المريض المغترب وتقول: “آه، آآآآآ، آها، أيوا أيوا، هممم.”، وبعد شرح مفصل ومبسط وطويل أعتقد أن الشيخة لم تفهم نصفه، قالت ببرود ثلاجات الجنيرال وبلهجة عامية صرفة: “والله مَلُّشِّ علاج، هاظ حالته ملهاش عندي علاج”. قبل أن ينفض المولد، سألها أحدهم على استحياء: “طيب هاظ الولد نظره بضعف كل شوي، في إله عندك حل؟”، رمقتني الشيخة من مكانها ولا زلت أتذكر الملامح العامة لوجهها الذي كان ينبئ عن مسحة جمال قديمة أو مستترة تحت قناع المشيخة، ثم قالت بلهجة ليس لها لون ولا طعم ولا رائحة، “خاف الله ما لوش علاج”. لا أذكر تحديداً كيف كان شعوري وقتها، لكن من المؤكد أنني أصبت بإحباط شديد، إذ كنت حينها أنام كل ليلة على يقين أن الله سوف يستجيب لدعاء جدتي، حيث كنت أتظاهر بالنوم حينما كنت أنام في بيت عمي حيث تقيم أو تأتي هي لتبيت عندنا، فبعد أن تصلي الفجر ثمان ركعات أو أكثر.. ترفع كفيها إلى السماء وتدعو لأهل الأرض والسماء، وكنت أنتظر دوري بفارغ الصبر حتى تقول: ‘الله يشفيك يا مهند يا جَدِه... يا رب ما تطلع الشمس إلا وأنت بتشوف يا حبيبي يا جَدة..”. كنت أقول في نفسي؛ مستحيل ألا يستمع الله لها ولا يجيب دعاءها.. لكن الحقيقة أن الله لم يستجب لجدتي، ولم تجد الشيخة لي دواءً في صندوق عدة النصب والدجل.

 

******************

اللوحة الثالثة:

 سنتين بعد زيارتنا الأولى للشيخة مدللة. جدة أمي أي: والدة جدتي أم أمي رحمها الله وجدتي أم أبي رحمها الله في غرفة الجلوس في بيت جدتي أم أمي في حي الأرمن، حيث كانت الجدات الثلاث يشربن القهوة وقد غطت أم أبي وأم أم أمي -وهما أختين بالمناسبة- رأسيهما بمنديل أو شاشة خفيفة بيضاء وارتدين ثوب أسود من عند عبد العزيز أحسن تاجر قماش ولحفة وحرامات في عموم الأشرفية والوحدات والجوفة والتاج وما حولها، وفقاً لتصنيف جدتي أم أبي رحمها الله. كنت أجلس أنا وبعض خالاتي نستمع ولا نعلق على حديث جدتي أم أبي التي استحوذت على المشهد واستقطبت انتباه الحضور وفضولهم وهي تقول: “وومرت الحج دخلاله أم أحمد.. راحت عندها وضلت تستنه 4 ساعات عبين ما إجاها الدور، والله وبتقلك دخلت وتربعت على الأرض وبلشت الشيخة إِتهِفّها بسجادة الصلاة بعد ما ليّسَتها زيت… وزي الكِذِب، أسبوع وهلمَرَة قامت تركض إركاض”، الجدتين يسارعن في بلع رشفة القهوة ليعبرن عن اندهاشهن: “معقول! يا سبحان الله”، ثم تنطق أحداهن بحكمة اختلط فيها الاقتصاد بالطب بالقيم الأخلاقية وحال المجتمع وتقول وسط انتباه الحاضرين ولهو معظمهم: “طيب مش أحسن من هلدكاترة الناهبين مصارينا على الفاظي وهالكينا بكذبهم لا ذمة ولا ضمير، هاظ غير الأدوية اللي بيخلونا نشتريها؟”، “آه والله إنك صادقة، صحيح والله”.

 ما كان لمثلي طبعاً أن يدلو بدلوه، لكن كل ما كان يشغلني الجن الذي يعمل لدى الشيخة وتحت إمرتها: كم تعطيهم؟ بأي لغة يتحدثون؟ هل الفصحى كما في معظم أفلام الكرتون؟ أم بالعامية كما في مسلسل الساعة 8 ونصف؟ أم باللهجة البدوية مثل بطيحان وراس غليص؟ لماذا الجنّ أصلاً يخدمونها ويطيعونها؟  كيف سوف يجعلونها لا تموت ولا تمرض؟ هل يا ترا بإمكان الشيخة أن تهوي على واجهة معهد النور الكئيب الذي كنت أدرس فيه بمصليتها أو تطلق عليه 3 زفرات من فمها فيتهاوى ونعطّل؟ هل يمكنها أن تجعلني أطير مثل جرندايزر وأخرج خارج غلاف الأرض بلا عودة؟

  أما خالاتي، فكانت إحداهن تقرأ مجلة سيدتي غير عابئة بما يدور حولها، وأخرى منشغلة بتحضير حقيبتها للسفر إلى جامعتها خارج الأردن، وثالثة -وهي أصغرهن- تجرب ابتكار جديد لإحدى الأكلات الخيالية التي تمزج فيها الخيار مع الجوز مع كريمة موج البحر وكل ما تيسر لها من طعام لأكون أنا وأطفال العائلة ضحايا التذوق الأول.

 مضى هذا اليوم ولا أذكر كم من الأيام تلته حتى وجدت نفسي أركب مع جداتي الثلاث سرفيس الجوفة ليأخذنا من حي الأرمن إلى وسط البلد ثم إلى موقف رغدان مشياً على الأقدام فباصات البقعة متوجهين إلى الشيخة مدللة. فهمت أثناء الرحلة أنهن قررن اصطحابي لتنظر الشيخة في أمري، كما أن طبيعة الحديث التي أتذكرها تدل أنها ليست الزيارة الأولى للجدات وأنهن قد واظبن على جلسات العلاج المدللية منذ فترة.

 دخلت ممسكاً بيد جدتي أم أبي رحمها الله. لم يبدُ المكان هو ذاته الذي زرته مع وفد رجال العائلة منذ سنتين..  هل تغير.. هل رحلت الشيخة من بيت إلى آخر؟ هل استئجرت هذا البيت ليكون عيادة منفصلة عن مسكنها؟ أو لربما -وهذا الأرجح- هو المكان نفسه لكنني أنا من تغيرت نظرته إليه ومن فيه، فلا خشوع ولا هيبة ولا انبهار.

 جلست جدتي وأجلستني بجوارها على دكة خشبية طويلة وقد امتلأ الحوش عن بكرة أبيه بالزوار والمراجعين، وبدأ الحديث بينهم جميعا عن تجاربهم ومستوى التحسن وعن سفر الشيخة وترددها على مدينة جدة والخليج لتلبية دعوات الأمراء لتعالجهم من المرض والداء. لم أعر اهتماماً كبيراً لهذه الحكايات، حيث شد انتباهي وروعني صوت طرقات تأتي من الحجرة المقابلة المنغلقة بباب خشبي قديم مضلع لونه زيتي فاتح وبينه وبين اللمعان خصومة واضحة، سألت جدتي بهمس وخوف: “شو هاد تيتا؟ هي بتضرب الناس؟”، “هششش… اسكت…. هاي بتعالجهم وبتخبطهم بسجادة الصلاة عشان يطيبو”. تملكني الفزع وأنا أتخيل نفسي داخل هذه الحجرة وقد انسد علي الباب وهوت علي الشيخة بسجادتها، ظلت الأفكار والخيال يرفعاني ويهويان بي حتى أشارت لجداتي إحدى حاجبات الشيخة وكانت ترتدي عباءة مجعلكة ومنديلاً لا أعرف للونه اسماً وشبشب بلاستك أحمر.

 دخلنا الحجرة.. غرفة عادية صغيرة بينها وبين أشعة الشمس خصومة واضحة.. الرطوبة تركت فكّها المفترس على الجدران دون أن تقوى رائحة البخور على طمس رائحتها المنبعثة من كل مكان. غطت أرض هذه الغرفة حصيرة بلاستيكية كانت كأنها شبه جزيرة حيث أحاط بها من جهات ثلاث [جنبيات] أو [فرشات] اسفنجية رقيقة. توزعت الجدات على جهتين متجاورتين من الفرشات فاحتلت جدتي أم أمي جهة لوحدها وجلست الأختان أم أبي وجدة أمي إلى جوار بعضهما البعض، أما أنا فأجلسوني على الحصيرة لا أدري لماذا، ربما لأن قرار علاجي من عدمه لم يُتخذ بعد. كانت الشيخة مدللة تقف عند رأس الحصيرة في الجهة المقابلة للباب والتي ليس بها جنبية أو فرشة وكانت قريبة مني جدا، فاستجمعت كل ما بقي في عيني من نظر في حينها لأرى وجهها وجسمها. الواقع أنني تفاجأت حين رأيت امرأة متوسطة الطول، في أواخر الثلاثينيات، فاتحة البشرة لطيفة الملامح هادئة الشكل، ليس بينها وبين الساحرة في مسلسل (عنبرة والساحرة) الذي كنا نتابعه في حينها ونخاف منه قليلاً-أي شبه كما كنت أظن.

 أخذت الشيخة تنظر إلى جداتي وتتجاهلني، وبدأت الجدات فوراً بالكشف عن سيقانهن بتلقائية وسرعة تنم عن أنهن حفظن الدرس جيّدا واعتدنه. بدون مقدمات كلامية، فتحت الشيخة زجاجة الزيت وبدأت تدهن السيقان المكشوفة واحداً تلو الآخر وسط كلمات الاستحسان من الجدات: “أيوا أيوا… يسَلِم إِديكي… هان شوي بالله… آخ، هاذي المنطقة بتجول وبتعل علي كثير يا شيخة…”، وما أن فرغت الشيخة من “تلييس” السيقان المكشوفة حتى طوت سجادة الصلاة الحمراء على ثنيتين استعداداً للنزول بها على السيقان المعتلة، وقد تمهلت الشيخة قليلاً حتى انتهت حفلة «التعازم» وحلف الإَيمان بين الجدات أن تبدأ الشيخة بهذه أولا قبل تلك: “بلشي بالحجة… لا والله، إنتي الأكبر… لا أبدا إنتي أولى….” واختارت الشيخة الأقرب والأسهل لها وهي تقول: “كلكِن جايكِن الدور”، وبدأت تهوي بها على أقدام وركب وسيقان الجدات اللاتي سلّمن لهن أمرهن تماماً وكأني بهنّ تحت تأثير تنويم مغناطيسي أو بنج كلي في أحسن الأحوال.

 اطمأن قلبي مع أول ضربة على رجل جدتي أم أمي وأدركت أن خوفي وأنا أنتظر في الحوش كان مبالغاً فيه، فالضرب كان له صوت مرتفع ولكنه لم يكن مؤلما كثيرا. تناوبت الشيخة على السيقان الستة واحداً بعد الآخر وأنا أنظر تارةً إلى وجهها وتارةً إلى ظهرها كلما تيسر لي ذلك، فالحقيقة كان لدى الشيخة مسحة من جمال حقا، هذا طبعا بمقاييس العصر والسن وما بقي من النظر آن ذاك.

 أثناء «تنفيضها» لجدة أمي سألتها تلك الأخيرة وهي تحت القصف: “بالله عليكي تشوفي هلولد يمكن يطيب على إيديكي”، وقبل أن ترد ناولتها جدتي أم أبي: “هاظ أبوه في الدفاع المدني ووداه عند أكبر دكاترة في البلد وأخذ أوراقه معه على أميركا”، فما كان من الشيخة وقد اشتد ضربها لجدة أمي أن قالت وهي تنظر إلي بطرف عينيها: “علاجه مش عندي يا حجة”، فبادرتها جدتي أم أبي: “ليش يا شيخة، حرام والله”، ودون أن تنظر إلي هذه المرة: “ملوش علاج يا حجة”، ولم يمنع وقوع جدة أمي تحت ضربات الشيخة أن تقول لها بخفة دمها المعروفة: “خلصينا عاد.. منشاني.. هفّيه كم هواي وتفيلك في عينه تفتين يمكن يطيب..”. إلا أن الشيخة أصرت على موقفها ورأيها لأنه طبعاً يستند إلى آخر ما توصلت إليه قواعد علوم الشعوذة والجلا جلا، فكيف يمكن أن تورط نفسها في مسألة غير نسبية القياس مثل ألم الركبة أو المفاصل؟ فالنظر إما يعود ولو بسيطاً أو لا يعود، لذلك حكمت علي الشيخة بالطرد من جنتها التي تجري من تحتها أنهار لعابها وزيتها المبروك وتصدح فيها طرقات مصلاتها. بين رجاء الجدة ورفض الشيخة كنت قد تحسست عيناي أكثر من 20 مرة متمنياً أن أبقى كما أنا ولا أن تبصق الشيخة في عيني، وقلت في نفسي: “يا حبيبي لو البصقة فلتت من الشيخة وجاءت في مناخيري والا في فمي، يا حبيب الله، إستفدنا! وبعدين قديش بده وقت عشان ينشف في عيني لعاب الشيخة، طيب يا ترا ساخن والا بارد؟؟؟”.

 ثمة ما أثار إعجابي بنفسي في غمرة هذا العبث، ذلك أنني لم أخف أن يقول الجني للشيخة حديث نفسي المستعيذ من لعابها وسياط مصلاتها.. وأنني كنت أضحك منها كثيرا وهي تضرب الجدات وتضحك عليهن بدجلها وزيتها المغشوش والمخلوط بزيت السيارات أو المازولة في أحسن الأحوال.. لم أخف أن يحدث لي ما حدث لسعيد عبد الحافظ الذي لا أعرفه إلا من رواية جدتي أم أبي التي نقلت بإسناد ضعيف لكنه حسن؛ أنه أصيب بصداع شديد جدا كان يصرخ منه بعد أن قدح في مقام الشيخة وشكّك في قدراتها ومصداقيتها؛ فلم يشفه إلا ذهابه إليها واعتذاره منها واعترافه بين يديها بما اقترفت يداه وما جناه عليه لسانه الطويل من إثم الغيبة وأكل لحم الشيخة المسموم.

 الواقع أنني كلت للشيخة في طريق العودة إلى البيت كل كلمات القباحة التي كانت في قاموسي الصغير وتجرأت حين وصلنا بيت جدتي في حي الأرمن وركضت إلى خالتي وقلت لها: “ضربتهم كتير وقالت مليش علاج.. وشكلها كذابة.. بس حلوة..”. طبعا نهرتنِ إحدى جداتي بقوة وأخافتني مرةً أخرى بحكاية سعيد عبد الحافظ بينما أخذتني خالتي وأطعمتني ثم انصرفت للحارة للعب الكرة والجلول التي انقطعت عنها لساعتين بسبب هذه الرحلة البائسة.

 كانت فرحتي لا توصف حينما تفاجأت بالشيخة تظهر على شاشة التلفاز بعد زيارتنا لها بشهر تقريباً، إذ ظهرت وهي تهرب من الإعلامي العظيم الراحل محمد أمين من جدار إلى آخر داخل حجرة [الكشف] بعد أن دخلها بحجة أنه مريض يطلب العلاج. حيث أصيبت الشيخة بحالة هستيرية حينما اكتشفت أنه من التلفزيون، فأخذت تصيح في وجهه ومن معه: “ابعّدو عني! إنتو مش طاهرين! مش متوظيين!”. فما كان منه رحمه الله إلا أن ذهب وفريقه وتوضؤوا على مشهد من أتباعها وأجرى معها لقاءً في برنامجه الناجح “ربورتاج”. وقد تسببت هذه الحلقة في بدء أفول نجم الشيخة، خصوصاً أن الإعلامي محمد أمين استضاف رجال دين وأطباء وعلماء اجتماع ونفس ليناقشوا ويحللوا ظاهرة الشيخة مدللة.

 ما هي إلا بضع جلسات حتى تثاقلت الجدات من رحلة حي الأرمن البقعة وبالعكس، وأيقن ألا تحسن على حالتهن على الإطلاق، لترسل كل واحدة منهن حفيدها الأقرب ليشتري لها دوائها المعتاد الذي توقفن عن أخذه لمدة ثلاثة أسابيع بأمر الشيخة.

 ثمة رسالة مهمة للشيخة أرجو ممن يعرف مكانها أو من سيلتقيها بعد الموت أن يبلغها إياها، ألا وهي: أنني لم أكن متوضئً في المرتين اللتين ذهبت إليها فيهما، وأن رجال وفد عائلتنا الذين زاروها ليعرضوا عليها حالة قريبنا المغترب؛ لم يكنوا متوضئين، إذ لم يكن أياً منهم من المصلين في تلك الآونة.