الأمن المائي في الأردن: تحديات الندرة، التحولات الجيوسياسية، وآفاق مشروع الناقل الوطني حتى عام 2030
تُعد قضية الأمن المائي في الأردن التحدي الأبرز والأكثر إلحاحًا الذي يواجه الدولة الأردنية في منتصف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، حيث تتجاوز الأزمة مجرد النقص في الإمدادات لتصبح معضلة معقدة متعددة الأبعاد تشمل الندرة الطبيعية المتأصلة، الضغط السكاني المتزايد الناتج عن تدفقات اللاجئين، وتأثيرات تغير المناخ المتسارعة، بالإضافة إلى تعقيدات الجغرافيا السياسية الإقليمية التي تؤثر على مشاركة الموارد المائية عبر الحدود.
تقدم هذه الورقة تقديرًا استراتيجيًا شاملاً للوضع المائي الحالي في عام 2025، مع تحليل معمق للتحديات الوجودية على أرض الواقع والمشاريع الاستراتيجية المستقبلية، وخاصة مشروع "الناقل الوطني" الذي يمثل خطوة حاسمة نحو الاستقلال المائي، إلى جانب توصيات عملية ومحددة لصانعي القرار الأردنيين للفترة حتى عام 2030، مع التركيز على ضرورة بناء القدرات والابتكار لمواجهة التكاليف العالية لإنتاج المياه كما أشارت تقارير حديثة.
تعتمد هذه الورقة على منهجية التحليل الاستراتيجي الشامل (Holistic Strategic Analysis)، مستندة إلى مصادر موثوقة تشمل: (أ) بيانات وزارة المياه والري الأردنية التي توفر إحصاءات دقيقة حول الإمدادات والاستهلاك، (ب) تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي المتعلقة بالتمويل والاستدامة المالية للمشاريع المائية، و(ج) تحليل التداعيات الجيوسياسية للأحداث الإقليمية بعد أكتوبر 2023، مع إضافة رؤى من دراسات حديثة حول الاقتصاد السياسي لإدارة المياه في الأردن منذ استقلال الدولة.
يغطي التقدير الفترة الحالية لعام 2025، بالإضافة إلى المرحلة الانتقالية المتوقعة حتى عام 2030، والتي تمثل الموعد المفترض لبدء التشغيل التجريبي للمشروع الاستراتيجي "الناقل الوطني"، مع مراعاة التحديثات الأخيرة التي تشير إلى إمكانية بدء التشغيل بحلول 2029 أو 2030 بناءً على تقدم التمويل والتنفيذ.
يُصنف الأردن عالميًا كواحد من أفقر ثلاث دول في الموارد المائية، حيث انخفضت الحصة السنوية للفرد إلى ما يقارب 60 مترًا مكعبًا سنويًا، وهو مستوى يبتعد كثيرًا عن خط الفقر المائي المطلق (1000 متر مكعب للفرد)، بل ويتجاوز خط الندرة المائية المدقعة (50 متر مكعب للفرد) في بعض المحافظات، مما يعكس تفاقم الأزمة بسبب النمو السكاني السريع والاعتماد على مصادر عابرة للحدود.
ويعتمد تغطية العجز المائي الرئيسي، الذي يبلغ نحو 500 مليون متر مكعب سنويًا، على الضخ الجائر من المياه الجوفية غير المتجددة، مما يهدد الاستدامة طويلة الأمد. على سبيل المثال، في حوض الديسي، يتم الضخ بمعدلات تفوق التغذية الطبيعية بعشرات الأضعاف، مما يؤدي إلى استنزاف الاحتياطي الاستراتيجي المخصص للأجيال القادمة، في حين تعرض حوض الأزرق والواحة البيئية فيه لجفاف شبه كامل نتيجة الضخ المفرط لتزويد العاصمة عمان، مما أسفر عن أضرار بيئية غير قابلة للترميم وفقًا للتقارير البيئية الحديثة.
لا يزال الفاقد المائي (Non-Revenue Water) يشكل كارثة اقتصادية واستراتيجية كبرى، حيث تدور النسبة الحالية حول 45-50% في المتوسط الوطني، مع ارتفاعها في الشبكات القديمة، وينقسم هذا الفاقد إلى فاقد تقني ناتج عن اهتراء الشبكات والتسربات، وفاقد غير تقني بسبب الاعتداءات على خطوط المياه والسرقات، مما يؤدي إلى استنزاف هائل للموارد التي تُنتج بتكاليف مرتفعة، ويبرز هذا التحدي الحاجة إلى استثمارات في تقنيات توفير المياه كما أوصت دراسات حديثة.
وشهد عام 2025 ترسيخًا لعقيدة "الاستقلال المائي" كرد فعل مباشر على فشل المشاريع الإقليمية والضغط الجيوسياسي، خاصة بعد تجميد المشروع المشترك مع إسرائيل عقب العدوان على غزة، حيث يمثل هذا التجميد إدراكًا بأن الاعتماد على الاحتلال الإسرائيلي لتأمين 200 مليون متر مكعب من المياه كان سيضع "صنبور الأردن" تحت سيطرة تل أبيب، مما يهدد السيادة الأردنية في حال أي خلاف سياسي أو عسكري مستقبلي، وهذا دفع الحكومة إلى تسريع خيارات التحلية الذاتية مثل الناقل الوطني بدلاً من الحلول المشتركة، مع التركيز على الشراكات الدولية لتعزيز الاستقلال.
كما أصبح التعامل مع حوض اليرموك (مع سوريا) مقتصرًا على "إدارة النقص" بدلاً من "إدارة الموارد"، حيث باتت التدفقات السنوية تقل عن 50 مليون متر مكعب، في ظل استمرار بناء السدود والحفائر في المنبع السوري، مما يعني إخراج اليرموك من قائمة الحلول الاستراتيجية طويلة الأمد ووضعه في خانة "الرافد الهامشي" لسد الوحدة، مع تزايد التحديات الإقليمية الناتجة عن التناقص في مياه الرافدين في العراق وسوريا.
كما يُعد مشروع الناقل الوطني لتحلية مياه العقبة حاليًا أهم مشروع أردني منذ عقود، حيث نجحت الحكومة في تأمين التمويل المغلق الذي يتجاوز 2.9 مليار دولار، عبر نموذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP)، وبدعم حاسم من مؤسسات دولية مثل البنك الأوروبي لإعادة الإعمار، الوكالة الفرنسية للتنمية، وصندوق المناخ الأخضر (GCF)، بالإضافة إلى تعهدات أمريكية بقيمة 700 مليون دولار وإجمالي تعهدات تصل إلى 1.830 مليار دولار في منح وقروض.
أما المسار الزمني، فبعد توقيع الاتفاقيات مع الائتلاف الفائز، بدأت أعمال التجهيز اللوجستي، وتشير التوقعات إلى أن مدة التنفيذ تستغرق حوالي 4-5 سنوات، مع تفاؤل بضخ الكميات الأولى بحلول 2029 أو 2030، حيث سيوفر المشروع 300 مليون متر مكعب سنويًا عبر خط أنابيب يمتد 460 كم من العقبة إلى عمان، مع بدء البناء المخطط في أوائل 2026.
من التحديات الهندسية والتشغيلية المستقبلية، يبرز استهلاك الطاقة كأبرز نقطة وأكثر تكلفة، إذ سيتطلب نقل 300 مليون متر مكعب من مستوى سطح البحر في العقبة إلى ارتفاع يزيد عن 1000 متر في عمان كميات هائلة من الطاقة (Elevation Head)، مما يفرض ضرورة الاستثمار الموازي في مشاريع ضخمة للطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والرياح لتقليل الكلفة التشغيلية، وإلا فإن سعر المتر المكعب سيصبح خياليًا، كما يتطلب أمن البنية التحتية تأمين خط الأنابيب الذي يمتد أكثر من 450 كم ضد أي اعتداءات أمنية أو تخريبية، مما يستلزم فرق مراقبة متخصصة، بالإضافة إلى التعامل الحذر مع التخلص من المياه المالحة المركزة (Brine) لتجنب الإخلال بالتوازن البيئي للشعاب المرجانية في خليج العقبة، من خلال تقنيات تشتيت متطورة ومكلفة، مع مراعاة النمو المتوقع في سوق التحلية بنسبة 9.6% حتى 2033.
أما التحديات القادمة للفترة 2026-2030، فهي سنوات العطش الانتقالية التي تتطلب قرارات صارمة ومؤلمة لإدارة الأزمة بامتياز، حيث تشمل الكلفة الاقتصادية والاجتماعية انهيار الزراعة التي تستهلك حوالي 50% من المياه المتوفرة، مما سيؤدي التضييق المستمر عليها إلى انهيار زراعة المحاصيل المائية الكثيفة مثل الخضراوات والفواكه لصالح المحاصيل الأقل استهلاكًا أو الزراعة التكنولوجية (المائية أو العمودية)، مما يهدد الأمن الغذائي المحلي ويتطلب إعادة هيكلة جذرية للقطاع، بالإضافة إلى الضغط على الموازنة الناتج عن شراء المياه الإضافية، حفر الآبار العميقة الطارئة، والدعم الحكومي لتعرفة المياه، وكلها عوامل تزيد من عجز الموازنة وتؤثر على النمو الاقتصادي المتوقع، مع أزمة اللجوء المائي وتغير المناخ التي تجعل الأردن غير معزول عن المنطقة، حيث يهدد التناقص الحاد في مياه الرافدين في العراق وسوريا، وارتفاع درجات الحرارة، بخلق موجات جديدة من "اللاجئين المائيين" الباحثين عن بيئة أكثر استقرارًا، مما سيزيد الضغط السكاني الهائل أصلاً على البنية التحتية المنهكة، كما أبرزت تقارير منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة.
لعبور "سنوات العطش" والتحضير لمرحلة "السيادة المائية" بعد الناقل الوطني، يُوصى خبراء مياه بالآتي كخريطة طريق حتى 2030: الإدارة الصارمة للفاقد المائي من خلال التعامل معه كأولوية أمنية واقتصادية قصوى، وتخصيص تمويل استثنائي لتأهيل الشبكات وتغليظ العقوبات على الاعتداءات، بهدف الوصول إلى نسبة أقل من 25% بحلول عام 2030؛ استغلال المياه الرمادية والمالحة عبر البدء فورًا في مشاريع واسعة النطاق لتحلية المياه الجوفية قليلة الملوحة (Brackish Water) واستغلال المياه العادمة المعالجة (المياه الرمادية) بشكل أكبر في الزراعة والصناعة؛ إصلاح تعرفة المياه (Tariff Reform) من خلال برنامج تدريجي لتصحيح التعرفة بحيث تعكس الكلفة الحقيقية لإنتاجها ونقلها، مع الحفاظ على دعم للفئات الفقيرة، وهذا الإصلاح ضروري لترشيد الاستهلاك وضمان استدامة تشغيل الناقل الوطني؛ تكامل الطاقة والمياه عبر إطلاق مشاريع طاقة متجددة ضخمة (على نموذج حق الانتفاع أو البناء والتشغيل والتحويل BOT) مخصصة حصريًا لتغذية محطات ضخ الناقل الوطني، لضمان استمرارية تشغيله بأقل كلفة ممكنة، مع الاستفادة من الدعم الدولي كما في تعهدات صندوق المناخ الأخضر.
يشير التقدير الاستراتيجي إلى أن الأردن قد اتخذ قرارًا حاسمًا بوضع أمنه المائي بين يديه من خلال مشروع الناقل الوطني، متخليًا عن الحلول الإقليمية التي أثبتت هشاشتها، وتمثل الفترة حتى 2030 اختبارًا لقدرة الدولة على الصمود وإدارة الندرة، حيث يضمن النجاح في عبور هذه الفترة وتنفيذ الناقل الوطني ليس فقط الأمن المائي، بل يعزز استقلال القرار السياسي الأردني، مع التركيز على الحلول المبتكرة والشراكات الدولية لتحقيق الاستدامة.











































